المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (293)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (293)
[سورة المائدة: 51-53]يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُ مِنۡهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ (51)
عقِبَ بيان ما كان عليه اليهود من المراوغة والتلاعبِ بآياتِ الله، واستماتتهم في إفسادِ الدين، وما أرادوهُ مِن فتنةِ المسلمين عن دينهم، وجَّهَ اللهُ النداء للمؤمنين، محذرًا لهم من الميل إليهم تحذيرًا شديدًا، لأنّ المُوالي لهم لا يأمنُ أن يصيرَ مِن عدادِهم وجماعتِهم، فيكون مثلَهم، عدوًّا لدين الله وللمؤمنين، وأضافَ إليهم النصارى في الآية؛ لأن الضرر الذي يُخشى منه بموالاة اليهود، موجودٌ في موالاة النصارى.
فقوله: (لَا تَتَّخِذُوا اليهود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) من الولاء: وهو الميل والنصرة والمودة، أي: لا تتخذوهم من خواصكم، تُوادّونهم من أجل الدنيا، وقوله (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي: بعض كل فريق أولياء لبعض، وكذلك كل فريق منهم هم بعضٌ، أولياءٌ للفريق الآخر، الذي هو بعض مغاير للأول، فالكفر ملة واحدة، وقوله (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ظاهره أن مَن مال إليهم وناصرهم صارَ منهم، ودخل في ملتهم، وهذا المعنى غير مراد على إطلاقه، فهو مقيدٌ عند كافة العلماء بالموالاة الكاملة، موالاة المودة والمحبة لأجل دينهم، والرضا به، فهذه هي الولاية التي تحصل بها الردة، أمّا مَا دون ذلك، فمنه ما هو محرمٌ تحريمًا غليظًا، دالًّا على فسوق صاحبه، وأنه مِن الظالمين، وهو التعاونُ معهم بِما يضرّ المسلمين، والميل إليهم لأجلِ تحقيق منافعَ خاصة، أو أطماعٍ يعِدُونَ بها، مِن حفاوةٍ ومناصبَ ووجاهاتٍ وأموال، أو توفير ملذاتٍ أو غير ذلك، دون رضًا بكفرهم، ولا ميل إليه، فهذا لا يصل إلى الردةِ، وقد فعل مثل ذلك حاطبُ بن أبي بلتعة رضي الله عنه مع كفار قريش متأوّلًا، وبعث إليهم بكتابٍ يخبرُهم بأمرِ المسلمينَ، فنهاهُ النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وعاتبه، وقال لأصحابهِ لمّا أكثروا عليه: (لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ، أَوْ: فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)([1])، وهناك نوع ثالث قد يُظنّ أنه موالاة، وما هو بِولاء، وهو التعاملُ معهم بالبيع والشراء، وتبادلِ المصالح الدنيوية، فهذا لا حرجَ فيه، وقد (أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ اليهودَ؛ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا)([2]) (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين يوالون أعداءه، إن لم يرجعوا من قريب، وقد بيَّن الله تعالى أن من الموالاة ما هو مِن أعمال المنافقين بقوله:
فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٞۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٖ مِّنۡ عِندِهِۦ فَيُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ نَٰدِمِينَ (52)
المرض في قوله (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) النفاق، فالذين في قلوبهم مرضٌ المنافقون، قلوبهم مريضة بالكفر الذي لا يُظهرونَه، فهم (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) أي يسارع المنافقون في مرضاة الكافرين وموالاتهم، وعُدِّي يسارعون بحرفِ الجر (فِي) وهو يتعدى بـ(إلى) لتضمينه معنى الدخول، إشارة إلى دخولهم فيهم، وعدّهم منهم، فالمنافقون متمكنون في الكفر وأهله تمكن المظروف في ظرفه، وذكر أهل السير أن الآية نزلت لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزو بني قينقاع، وكان لبني قَينُقَاع حلفٌ وموالاةٌ مع عبادة بن الصامت رضي الله عنه وبعض المنافقين، على رأسهم عبد الله بن أُبي بن سلول، فلما علم عبادة بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجه إلى يهود قينقاع جاءه، وقال: إني أبرءُ إلى الله من حلف يهود، ولا أوالي إلا الله ورسوله، وكان ابن سلول حاضرًا فقال: أمّا أنا فلا أبرأ مِن حلفهم، لا بدَّ لي منهم، إنّي رجل أخافُ الدوائر، فنزلت([3])، فالدائرة في قوله (أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) مِن دارَ، إذا انعكس في سيره، جمعها دوائر، وهي نوائب الزمان وتحول الأحوال، وقد شاع استعمال الدوائرِ في المكروه، ولذا قالوا في قوله تعالى: (عَلَیۡهِمۡ دَاۤىِٕرَةُ ٱلسَّوۡءِ)( ) أنّ الإضافة فيه للبيان، فيُفهم المعنى ولو لم يذكر المضاف إليه وهو (السّوء).
وعسى في قوله (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) أصلها للترجي، وفي جنب الله معناها تحققُ الوقوع، فهو وعدٌ مِن الله للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالفتح والغلبة في غزو عدوِّهم، أو يأتيهم بأمر فيه قوةٌ ورفعةٌ لشأن المسلمين، وهوانٌ لعدوهم، وفعل (فَيُصْبِحُوا) منصوبٌ معطوف على (أن يأتي)، أي: فيصبح المنافقون على ما أسروه وأضمروه في أنفسهم مِن الكفرِ نادمين.
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَهَٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُواْ خَٰسِرِينَ (53)
الاستفهام في قوله (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ) للتعجب، والإشارة بـ(هؤلاء) لطائفة المنافقين، أي عندما يأتي الفتح ويفتضح أمر المنافقين يقول المؤمنون متعجبين مما كان يقوله أهل النفاق ويقسمون عليه بكل ما أوتوا من جهد إنهم مع المؤمنين، فـ(جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) منصوبٌ على المصدر المبين للنوع؛ لإضافته إلى أيمان وهي مصدر، وفعله جَهَد كمَنَع، معناه التعب والمشقة.
والمعنى أنَّ المؤمنين عندما يفتح الله عليهم بالنصر، ويُفتضح أمرُ المنافقين، الذين كانوا يخشون الدوائر على أنفسهم، يقول المؤمنون: أهؤلاء المنافقون الذين أكدُوا الأيمان، وبلغوا في تأكيدها وتغليظها غايةَ وسعِهم، أنهم مع المؤمنين ينصرونهم ويوالونهم، وقد وُجدوا يومَ مَنّ الله بالفتح على خلافِ ذلك، فالتعجبُ من المنافقين في كذبهم و افتضاح أمرهم وتخليهم عن نصرة المؤمنين، كما قال الله تعالى عن كذبهم في الآية الأخرى: (وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)([4])، وقوله (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) يصح أن يكونَ من تمامِ قولِ المؤمنين عن المنافقين، وإخبارًا عنهم بأنهم أحبطت – أي ذهبت – أعمالُهم، فلم تبق لهم منها إلا الحسرةُ والندم، ويصح أن يكون هذا حكمٌ قاله الله عليهم ببطلانِ أعمالِهم، وأنهم لم يحصُلوا منها على شيء، فكانوا مِن الخاسرين.
[1]) البخاري: 3983.
[2]) البخاري: 2331، مسلم: 1551.
[3]( تفسير الطبري: 10/396.
[4]) الحشر: 11.