المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (301)
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة – 301
[سورة المائدة: 75 – 77]
(مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٞ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ)(75)
هذه الآيات (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) جاءت في الرد على قول النصارى (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) و(إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) فأثبتت الرسالة للمسيح، ونفت عنه صفة الألوهية بصيغة الحصر، وأنه كسائر الرسل قبله، وما أعطي من المعجزات قد أعطي مَن كان قبله مثله، وقوله (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي أن أمه التي ألّهتموها كما ألهتموه هو، ليست إلا صدِّيقة، والصدِّيق على وزن فعّيل، صيغة مبالغة من صدق، مثل مِسّيك للبخيل من مسك، وشِرِّيب لكثير الشرب من شرب، وضلِّيل لمن ضرب في الضلالة شأوا بعيدا ولم يهتد، فمريم عليها السلام صدقت ما عاهدت الله عليه من الإيمان، على أحسن وجه وأبلغه، وهي صدّيقة مصدقة بكل ما جاءها عن ربها، كما قال تعالى: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)([1])، وسُمي أبوبكر رضي الله عنه الصدّيقَ؛ لأنه أولُ مَن صدّق النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر منه في تصديقه ما لم يظهر من غيره، وتسمية يوسف عليه السلام بالصديق مِن هذا الباب؛ لأنه صدقَ مع ربه، فكفَّ عن المحرمات مع توفرِ أسبابها، في وقتٍ لم يكن له ما يخشاهُ سوى ربه، ومما يدلُّ على بشرية عيسى وأمه وأنهما ليسَا إلهينِ، أنهما (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) كسائر البشر، ويحتاجان إليه، والله منزهٌ عن الحاجة، والخطاب في قوله (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ) للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى منه، غير معين، والأمر في قوله (انْظُرْ) للتعجب، كما تقول: انظر إلى فلان، أُحسن إليه ويسيءُ إليّ! والاستفهام في قوله (كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ) يدل على تعجب آخر، وهو إعراضهم عن الآيات مع وضوحها، والآيات: البراهين والحجج، أي أُمروا بالنظر إلى كذب النصارى، كيف يبين الله لهم الآيات والدلائل والبراهين على فساد معتقدهم، ثم هم ينصرفون عنها ولا يبالُون، وأنّى في قوله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) للاستفهام والتعجب بمعنى كيفَ، ويُؤفكون مِن أفَكَ كضرَبَ، إذا صرفَ نفسهُ عن الشيء.
والمعنى: انظر كيف نبين لهم الحجج، ثم انظر لتتعجَّبَ كيفَ ينصرفونَ عن الحق.
(قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ)(76)
الخطاب في (قُلْ أَتَعْبُدُونَ) للنبي صلى الله عليه وسلم، أُمر بأن يقيم عليهم الحجة، أي قل لهم: يقبحُ بكم أن تُشركوا بالله وتعبدوا معه غيره من الأوثان والأنبياء، وأنّ ما تعبدونه مع الله – سواء كان عجلًا أو صنمًا أو نبيًّا – هو لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا، ولا يقدر غير الله على شيء من هذا البتة.
ومَن قدرَ من الأنبياء على شيءٍ فإنما هو بقدرة الله، فمعجزةُ عيسى عليه السلام بدفع الضر عن الأكْمَه والأبرص وإحياء الموتى، إنما هي بإذن الله؛ ليجعل ذلك آية لقومه فيؤمنوا، وقد سلبه الله تعالى هذه القدرة عندما أراد، بدليل أن عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام ما قدرَ أحدٌ منهم أن يدفع عن نفسه الموت، وقدم نفي الضر لأن التعلق بدفع الضر أشد عند الناس من التعلق بجلب النفع.
فالاستفهام في قوله (أَتَعْبُدُونَ) توبيخي، و(مِنْ دُونِ اللهِ) أي تعبدون من غير الله وسواه، و(ما) في (مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) اسم موصول، أصل استعمالها لِمَا لا يَعقل، واستعملت في القرآن لما يعقلُ، وهي هنا لما لا يعقلُ تغليبًا، لأن أكثر عبادة الكفرة وإن كانوا يهودا أو نصارى وثنية، فقد عبد اليهود العجل، ولا يختلفون في عبادته عن عبدة الأصنام.
وجملة (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي تعبدون غير الله، والحال أن الله سميع لعباداتكم الكفرية وما تقولونه من الشرك والتثليث، عليم لما تخفونه وتضمرونه مِن عداوتِكم للأنبياءِ والرسل.
(قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوٓاْ أَهۡوَآءَ قَوۡمٖ قَدۡ ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرٗا وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ)(77)
(قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ) أهل الكتَاب في الآية يمكن صرفه للنصارى؛ لأن الكلام قبل هذه الآية كان عليهم، ويحتمل أن ينصرفَ لعمومه إلى الفريقين؛ اليهودِ والنصارى، لأن كلّا منهما عنده غلو، والغُلو في قوله (لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) هو مجاوزة الحد، سواء بإفراط أو بتفريط، وقوله (غَيْرَ الْحَقِّ) صفة لمصدر محذوف، أي: لا تَغْلُوا غلوا بعيداً عن الحق، فهو مصدر مؤكد لفعله، إذ ليس هناك غلو من الحق، وغير الحق هو الباطل؛ لقول الله تعالى: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ)([2]) واتباع الأهواء المنهي عنه في قوله (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا) هو بعضٌ من اتباع غير الحق، فهو من عطف الخاص على العام، أي: لا تتبعوا باطل قوم موافق لما تشتهيه نفوسهم وأهواؤهم، والحال أنهم قد ضلوا (مِنْ قَبْلُ) أي ضَل أسلافهم من اليهود والنصارى قبل الإسلام، فلم يؤمنوا بأنبيائهم، وهؤلاء أحبارهم وعلماؤهم أَضَلُّوا عامتهم (وَأَضَلُّوا كَثِيرًا) منهم، فهم مَن يحرِّفون لهم الوحي، ويحلّلُون لهم ويحرمون، وإضلالهم لهم كان كثيرًا، فلم يكن عمل الأحبار والعلماء بالهيِّن اليسير، بل مِن الضلال الكثير الواسع، أضلوا به أقوامًا كثيرة، لأن الأحبار والرهبان هم من قعَّدوا لهم قواعد الشرك والتثليث، في مجامعهم وكنائسهم وبِيَعهم، فكفروا بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فضلُّوا سواءَ السبيل وطريقَ الحق، فإنه لما جاء الإسلام شرِقَتْ حُلوقُ أحبارهم وعلمائهم بنبيه صلى الله عليه وسلم، حسدًا من عند أنفسهم، مع علمهم صِدقه من كتبهم، قال تعالى: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ)([3]) ، وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النساء في قوله: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُلُوا عَلَى اللَّهِ إِلَا الْحَقَّ)([4]).
[1]) التحريم: 12.
[2]) يونس: 32.
[3]) البقرة: 146.
[4]) النساء: 171.