المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (303)
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة – 303
[سورة المائدة: 80 – 86]
(تَرَىٰ كَثِيرٗا مِّنۡهُمۡ يَتَوَلَّوۡنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ لَبِئۡسَ مَا قَدَّمَتۡ لَهُمۡ أَنفُسُهُمۡ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَفِي ٱلۡعَذَابِ هُمۡ خَٰلِدُونَ وَلَوۡ كَانُواْ يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلنَّبِيِّ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مَا ٱتَّخَذُوهُمۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ)(80-81)
الخطاب في قوله (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى منه، والضمير في (مِنْهُمْ) للمنافقين من يهود المدينة، الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، أي ترى كثيرا من منافقي اليهود في المدينة، وعلى رأسهم كعب بن الأشرف، يتولَّون المشركين في مكة ويناصرونهم على المسلمين، لبئس الصنيع صنيعهم.
والرؤية في قوله (تَرَى) بصرية، واللام في (لَبِئْسَ) للقسم، وبئس من أفعال الذم، وما في قوله (مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) نكرة موصوفة، أي لبئس شيئا قدمته أيديهم، أو اسم موصول والعائد محذوف، أي لبئس الذي قدمته أيديهم من عمل ترجع إليه وتجده في القيامة، يوم يوفَّى الناس ما قدموا، والمصدرُ من أنْ والفعل في قوله (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِم) هو المخصوص بالذم، لبئس الذي قدمت أيديهم موجبُ سخط الله، والحال أنهم في العذاب خالدون وقت دخولهم النار، فقد حكم الله تعالى عليهم بالخلود في النار إذا دخلوها، فجملة (وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) حال مقدرة، أي: بعدَ دخولهم النار يكون خلودهم فيها.
ولو كان هؤلاء المنافقون من اليهود يؤمنون بالله والنبي محمد صلى الله عليه وسلم حقًّا، وتخلصوا من النفاق، ما اتخذوا الكافرين أولياءَ لهم، وما ناصروهم وتحالفُوا معهم على المسلمين؛ لأن الإيمان يمنعُ موالاةَ الكافرين، فموالاتهم لهم علامةُ كفرهم، ولكنْ كثير من بني إسرائيل خارجون عن دينهم، واقعون في الكفر.
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ)(82)
تقدم الكلام على انحراف كل من اليهود والنصارى في عقائدهم، والتشنيع عليهم، وتقدم في اليهود وحدهم أنواعٌ من نفاقهم وغِلظتهم وجفوتهم، وبغضِهم للمسلمين، وعداوتهم للأنبياء، منها ما تقدم في قوله تعالى (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا)([1])، وقوله (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)([2])، ومنها قولهم لنبيهم: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)([3])، وذلك على خلاف النصارى عندما قال لهم المسيح عليه السلام: (مَنۡ أَنصَارِیۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ)([4]).
فهذا يُبين ما كان عليه اليهود من العداوة الزائدة، ويبيّن الفرق بين الطائفتين، لكن لا ينفي ضلالهما جميعًا، وعداوتهما لله ورسوله والمؤمنين، وأن الله تعالى نهى عن موالاة الفريقين، وهذا معناه أن أصل العداوة للمسلمين من الفريقين قائمة، وإن اختلفت شدّتها.
وذكرت الآية في قوله (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) أن عداوة النصارى للمسلمين أخف من عداوة المشركين واليهود، لسببين:
الأول: أن في النصارى قساوسة ورهبانًا فيهم تواضعٌ وتسامحٌ، ولينٌ وحسنُ خلق.
والثاني: أن قساوستهم ورهبانهم يميلون إلى الألفة والمودة، لا إلى التكبر والترفع والعداوات، وهذا يجعلهم قدوة لقومهم، يتأثرون بهم.
والتأكيد بمؤكدَين لام القسم ونون التوكيد في قوله (لَتَجِدَنَّ)؛ هو لمضمون الجملة في التفريق بين عداوة اليهود والنصارى، وقوله (عَدَاوَةً) منصوب على التمييز، وكذلك (مَوَدَّةً).
و(الَّذِينَ أَشْرَكُوا) في اصطلاح القرآن هم الكافرون من غير أهل الكتاب، والإشارة في قوله (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) إلى المذكور من أن اليهود أشدّ عداوة من النصارى، والباء في قوله (بِأَنَّ مِنْهُمْ) سببية تعليلية، أفادت السبب والعلة في أن النصارى أقرب مودة، وضمير (منهم) للنصارى، و(قِسِّيسِينَ) جمع قَس، وهو عالم دين النصارى (وَرُهْبَانًا) مفرده راهب، وهو المنقطع في أديرة النصارى للعبادة.
والضمير في (وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) لأقرب مذكور، وهم القسيسون والرهبان، ويجوز عودُه للنصارى، والسين والتاء في (يَسْتَكْبِرُونَ) للمبالغة، والاستكبار المنفيُّ أصله تكبر وترفع الإنسان في ذاته، ومكابرته ومعاندته للحق.
(وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن يُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلصَّٰلِحِينَ)(83-84)
الرهبانُ والقساوسةُ – لرقة قلوبهم – إذا سمعوا ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن ترى أعينهم تَغْرَوْرِق بالدمع مِن خشية الله، بسبب معرفتهم الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتضرعون (رَبَّنَا آمَنَّا) بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الذين يشهدون لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، وممن يشهد الرسول عليهم يوم القيامة باتباعه، ولم يبدلوا، ولم يغيروا.
وقد ورد أن سبب نزول الآية كان في بعض الرهبان من الشام، هاجروا إلى الحبشة، ثم أتوا المدينة صحبة المُسلِمِين الَّذِينَ رَجَعُوا مِن هجرة الحبَشَةِ، في السنة السابعة، وَسَمِعُوا الْقُرْآنَ وَأَسْلَمُوا، وَهُمْ: بَحِيرَا الرَّاهِبُ، وَإِدْرِيسُ، وَأَشْرَفُ، وَأَبْرَهَةُ، وَثُمَامَةُ، وَقُثَمُ، وَدُرَيْدٌ، وَأَيْمَنُ([5])، ورجع معهم من قساوسة الحبشة أكثر من ستين راهبًا، آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهم الذين قالوا: (وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن يُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلصَّٰلِحِينَ) فقولهم (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ) جملة مستأنفة، واقعة جوابًا لسؤال مقدّر، والأصل في الجملة المستأنفة في جواب سؤالٍ عند علماء المعاني أن تُفصل، ولا تعطف بالواو؛ لأنّ الجواب لا يُعطف على السؤال، واختلفوا في توجيه اقترانها بالواو هنا؛ هل الواو زائدة، أو عاطفة على مقدّر؟ وقيل غير ذلك.
أي قال الرهبان: وما الذي يجعلنا لا نؤمن، وقد تهيأتْ لنا دواعي الإيمان، ولا يمنعنا منه شيءٌ، فنحن نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا بالإيمان (مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) قالوا ذلك في أنفسهم، ولمن يلومهم عن الإسلام حين آمنوا.
فقوله (وَمَا لَنَا) ما للاستفهام الإنكاري مبتدأ، و(لَنَا) خبر، و(لَا نُؤْمِنُ) جملة حالية، حال لازمة لا تتم الجملة بدونها، والتقدير: أي شيء صارف لنا حالَ كوننا غير مؤمنين، فهم ينكرون على أنفسهم، ما الذي يمنعهم من الإيمان، وقد عرفوا أن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحقُّ، وليس شركَ التثليث، الذي كانوا عليه، وجملة (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) عطف على جملة (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ).
فالضمير في قوله (وَإِذَا سَمِعُوا) للقساوسة والرهبان من النصارى والذي أنزل إلى الرسول في قوله (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) هو القرآن، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخطاب في (تَرَى أَعْيُنَهُمْ) للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى له ذلك، و(تَفِيضُ) تَغرَورِق وينصَبُّ منها الدمع، ومن في (مِنَ الدَّمْعِ) لابتداء الغاية، تعليلية، فإفاضة الدمع من أعينهم نشأت وابتدأت لأجل معرفة الحقّ، وبسببه، ومن في (مِنَ الْحَقِّ) تبعيضية، أو للبيان، أي: فالدّمعُ نشأ وابتدأ وفاضت به أعينهم، كان من أجل ما عرفوه، والذي عرفوه هو الحق، إن جعلت (مِن) للبيان، أو بعض الحق ومِن جملته، إن كانت للتبعيض، وإسناد الإفاضة إلى الأعين في قوله: (أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ) مجازٌ عقلي، كقولهم: سالَ الوادي، وجَرَى النهر.
(فَأَثَٰبَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ)(85)
أي: كافأ الله من آمن من الرهبان ومن آمن من النصارى بالنبي -بسبب ما قالوا بلسان المقال أو بلسان الحال، وبما اعتقدوا- جنّاته ومحبته، لإحسانهم وإيمانهم، فكان الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: (هَلۡ جَزَاۤءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَٰنُ)([6]).
(وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ)(86)
أما من كان من النصارى أو من غيرهم كَفَرُوا وكَذَّبوا بِآيَاتِنَا، وهي القرآن ومعجزات الأنبياء، ولم يقولوا كما قال أحبارهم (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ) أُولَئِكَ الذين كفر منهم هم أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، والجحيم: النار العظيمة في حفرة، يدوم اشتعالها ولهيبُها، ونار جهنم شديدةُ اللهب، فأولئك هم أصحابُ النار العظيمة الملتهبة، الملازِمُون لها، لا يخرجونَ منها.
[1]) المائدة: 68.
[2]) المائدة: 62.
[3]) المائدة: 24.
[4]) آل عمران: 52.
[5]) أسباب نزول القرآن للواحدي: 1/ 204.
[6]) الرحمن: 60.