المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (313)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (313)
[سورة المائدة:116-120]
(وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ)(116)
الكلام من هنا في تقريع النصارى، معطوف على تقريع اليهود المتقدم في قوله: (إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ)، وهذا القول من الله تبارك وتعالى لنبيه عيسى عليه السلام في قوله (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) هو في سياق قوله للرسل يوم القيامة، يوم يجمع الله الرسل فيقول: (مَاذَا أُجِبْتُمْ).
ومعنى الآيات: هل أنت أمرتهم أن يجعلوك وأمك إلهين سوى الله؟ لأنّ مَن أشرك مع الله غيره لم يجعل الله إلها، ولم يعبده؛ لأن تأليه الله وعبادته معناها التوحيد، فمن أشرك معه غيره لم يؤلهه، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)([1])، والله تعالى يعلمُ أنّ عيسى عليه السلام لم يقل لقومه (اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ) وما أمرهم إلا بالتوحيد، فالاستفهام في قوله (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ) لتوبيخ قومه، الذين عبدوه وغلوا فيه، وتقريعهم وتبكِيتِهم بما يقيم عليهم الحجة.
وقد جاء السؤال لعيسى عليه السلام على هذا النحو ليصرح عيسى في جوابه بالتبرؤ منهم، زيادة في الإنكار عليهم، وبادر عيسى عليه السلام في جوابه بتنزيه الله وتقديسه، قبل تبرئة نفسه مما نسبه إليه قومه، فقال: سبحانك أنزهك وأقدسك عن الشريك (مَا يَكُونُ لِي) ما ينبغي لي ولا يليق بي أن أقول ما نسبوه إلي، فليس ذلك (لِي بِحَقٍّ) ونفي أحد عن نفسه شيئا بأنه ليس له فيه حق، أبلغ من مجرد نفيه عنه؛ لأن من نفى حقه في شيء لا يخشى رجوعه إلى ما نفاه، بخلاف من اقتصر على نفيه، فقد يعود إليه، ويقول أنه تبيّن له أن له فيه حقًّا.
وقوله (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) تأكيد للنفي في قوله (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي: ما قلت ذلك أبدا، ولا أحتاج في نفيه إلى دليل؛ لأَنِّي لو قلته لكنتَ قطعًا عالمًا به (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي) لأنك تعلم معلومي، تعلم كل ما عندي، وما انطوت عليه نفسي، وذَكر نفسه لأنها مظنة كتم الأسرار (وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) لا أعلم شيئًا من معلومكَ إلا ما علمتني، فـ(أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) لا تخفى عليك خافية، وقوله (مَا فِي نَفْسِكَ) للمشاكلة ومقابلة اللفظ باللفظ، على حد قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا۟ وَمَكَرَ ٱللَّهُ﴾([2]).
فتقديم المسند إليه (أَأَنْتَ قُلْتَ) والإتيان بالاستفهام معه للمبالغة في توبيخ النصارى الذين اتخذوه إلها، واللام في (لِلنَّاسِ) لام التبليغ، والناس هم قوم عيسى عليه السلام ، وقوله (اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ) أي صيِّرُوني وأمي، ولم يقل مريم، بل قال أمي، زيادة في تسفيههم وتوبيخهم حيث جعلوا من يتصف بالأمومة والولادة (إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ومن دون الله ظرف متعلق بـ(اتَّخِذُونِي) أو صفة لـ(إِلَهَيْنِ) ودون ظرف يدلّ على دنوّ المكان أو المنزلة، فيدلّ على الدنو الحسي في قرب المكان، وعلى الدنو المعنوي في تدني المنزلة، ومعنى: (مِنْ دُونِ اللهِ) من غير الله وسواه.
(مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ)(117)
بعد أن نفى عيسى عليه السلام ما نسبوه إليه وإلى أمه من الألوهية، أثبت ما قاله لهم من دعوتهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة بحروفه، فقال (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) وذلك ليؤكد بطلان دعواهم ألوهيته وألوهية أمّه بأسلوب النفي والإثبات.
وأن في قوله (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) مخففة من الثقيلة، لأن الأمر في قوله (مَا أَمَرْتَنِي) فيه معنى القول، فما بعد (أنْ) يفسر الأمر الذي أُمر عيسى عليه السلام أن يقوله، والتقدير: فما أمرتني إلا أن أقول لهم: اعبدوا الله ربي وربكم، فالمحكي نفسُ القول لا معناه، وهو معنى صحيح، لا محذور فيه، ويصح أن يكون (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ليس هو عين ما قاله الله، وإنما الذي قاله لعيسى عليه السلام: قل لهم أن يعبدوا الله ربك وربهم، فحكى عيسى عليه السلام المعنى، وقال لهم: اعبدوا الله ربي وربكم.
وما في قوله (مَا دُمْتُ فِيهِمْ) مصدرية ظرفية، أي مدة بقائي بينهم كنت رقيبا عليهم، وناصحا لهم، وذلك قبل أن يرفعه الله إليه وقوله (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي: فلما أمتَّني، فـ﴿ٱللَّهُ یَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِینَ مَوۡتِهَا﴾([3]) بواسطة ملك الموت، وقد تظافرت الأحاديث الصحيحة؛ أن عيسى عليه السلام حيٌّ في السماء، وأنه ينزل آخر الزمان، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويقتل الدجال، ويَفيض المال، ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيُحمل (تَوَفَّيْتَنِي) على أن الله توفاه ورفعه إلى السماء، ثم أحياه، كما قال تعالى: ﴿إِنِّی مُتَوَفِّیكَ وَرَافِعُكَ إِلَیّ﴾([4])، وتقدم الكلام عليها في آل عمران.
(وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فلما توفيتني انقطع ما بيني وبينهم، فأنت الرقيب عليهم، ومتولي أمرهم، وشاهد على كل أحوالهم، وتعلم من آمن منهم بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ومن لم يؤمن.
(إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ)(118)
(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) فقد استحقوا العذاب، لأنهم (عِبَادُكَ) وأنت المالك لهم، وقد عبدوا غيرك (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) وتعفو عنهم (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) المنيع الجانب، لا معقب لحكمك، لك القهر والغلبة عليهم، وأنت (الْحَكِيمُ) أفعالك كلها على مقتضى الحكمة، وبعزتك وحكمتك لك فعل العذاب وتركه، وفعل المغفرة وتركها، ومَن له الفعل والترك هو (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ)(119)
الإشارة في قوله (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) إلى يوم القيامة، فهو اليوم الذي ينفع الله فيه الصادقين بسبب صدقهم في الدنيا، وصدقهم هو إيمانهم واستقامتهم، صدق اعتقاد وصدق قول وصدق عمل، فأقوالهم الصادقة مطابقة لأعمالهم الصالحة، ونفعهم في ذلك اليوم هو بما ذكره الله (لَهُمْ جَنَّاتٌ) من صفاتها أنها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) حالة كونهم (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) وحالة كونهم (رضي الله عنهم) أي حائزين على رضوان الله، وهو أعظم نعيم الجنة الذي لا ينقطع (وَرَضُوا عَنْهُ) ورضوانهم عنه هو شعورهم بالامتنان والمحبة والتعلق به، والإشارة في (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إلى جملة المذكور من النعيم، أي جنات الله ورضوانه هو الفوز العظيم، الذي لا فوز بعده.
(لِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا فِيهِنَّۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ)(120)
وليس هذا النعيم في الجنة السالفُ الذكر كثيرًا على الله، الذي وحده المالك للسموات والأرض، والمالك لما فيهن، وهو القادر القدرة المطلقة على كل شيء، وقال سبحانه (وَمَا فِيهِنَّ) دون من فيهنّ؛ لأن (ما) تعمّ العقلاء وغير العقلاء، ولما في (مَا) من الإبهام والشمول، المناسب لإظهار عظمة سعة ملك الله، الذي لا يحده حدٌّ، قال بعض أهل التفسير وهذه الآية من آخر القرآن نزولا.
انتهت سورة المائدة بحمد الله، فلله الحمد على البدء والختامِ.
[1]) مسلم: 2985.
[2]) آل عمران: 54.
[3]) الزمر: 42.
[4]) آل عمران: 55.