المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (316)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (316)
[سورة الأنعام:7-12]
(وَلَوۡ نَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ كِتَٰبٗا فِي قِرۡطَاسٖ فَلَمَسُوهُ بِأَيۡدِيهِمۡ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ)(7)
(وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا) أي لو نزلنا عليك سِفْرًا مشتملًا على أوراق مكتوبة، أو على نحو ذلك مما يكتب عليه؛ لكذّبوا به، أي أنهم آلوا على أنفسهم أن يكذِّبوا النبي ﷺ مهما كانت الحال، حتى لو بلغ الحال معهم من البيان وإقامة الحجة أن الله نزلَ عليهم كتابًا من السماء، وتحقّقُوا منه، ولمَسته أيديهم، لكذبوا به، وقالوا على وجه المكابرة: هذا سحرُ ظاهرٌ بيِّن.
فالقرطاس كل ما يكتب عليه مِن رقّ أو بَردي أو كاغدٍ (ورَق)، واللمس في قوله (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) وضع اليد على الشيء للتعرف عليه، واللمس عادة يكون باليد، فذِكر (أيديهم) للتأكيد، كما في قوله: ﴿یَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم﴾([1])، حتى لا يحمل اللمس على التخيل أو التأمل والنظر، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ فَوَجَدۡنَٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسࣰا شَدِیدࣰا وَشُهُبࣰا﴾([2]).
وقوله (لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) جوابُ لو نزلنا عليهم، ووُضع الظاهر (الَّذِينَ كَفَرُوا) بدل المضمر (لقالوا) للتصريح بأن هذا القول (سِحْرٌ مُبِينٌ) إنما نشأ عن كفرهم، وأنه العلة في عنادهم وعذابهم.
(وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ مَلَكٞۖ وَلَوۡ أَنزَلۡنَا مَلَكٗا لَّقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ مَلَكٗا لَّجَعَلۡنَٰهُ رَجُلٗا وَلَلَبَسۡنَا عَلَيۡهِم مَّا يَلۡبِسُونَ)(8-9)
الضمير في (وَقَالُوا) لكفار مكة، فقد اقترح بعض رؤوس الكفر منهم على النبي ﷺ – حتى يصدقوه – أن يَنزِلَ ملكٌ من السماء يكون معه؛ ليشهدَ على صدقه عند تبليغ رسالته، وممن قال ذلك أُبَيّ بْن خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْن وَائِلٍ، وَالْوَلِيد بْن الْمُغِيرَةِ، وَعُتْبَة بْن رَبِيعَةَ، وَشَيْبَة بْن رَبِيعَةَ، هؤلاء هم الذين قالوا: لولا أنزل عليه ملك، ونسب القول للمشركين جميعًا؛ لرضاهم به، وتوافقهم عليه، أَرْسَلُوا إِلَى النَّبِي ﷺ فقالوا: سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ([3]).
فـ(لولا) في قوله (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) للتحضيض والحث على فعل أمر يُطلب من المخاطب فعله، مثل هلا، ويريدون بطلبهم إنزالَ الملائكة التعجيزَ، والضمير في (عليه) للنبي ﷺ، لدلالة السياق، ويعنون بإنزال الملائكة عليه أن يكون الملَك مصاحبًا له فيما يريد تبليغه، بأن يُخبر الملك عنه أنه نبي؛ لأن الرسول ﷺ من البشر، والبشر في نظرهم لا يكفي في إقناعهم بصدقه حتى يؤيَّدَ بالملائكة، كما قالوا في الآية الأخرى: ﴿قَالُوا۟ مَاۤ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُنَا﴾([4])، وقالوا: ﴿لَّوۡمَا تَأۡتِینَا بِٱلۡمَلَٰۤئِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِینَ﴾([5]) فبرهان صدق الرسول ﷺ عندهم أن يكون معه ملَك يصدقه، وما قالوا ذلك إلا تعجيزًا واستهزاءً، ليوجدوا لأنفسهم العذرَ في إعراضِهم وتكذيبهم، وأن سببَ إعراضهم فيما يزعمون هو تأخر نزول الملك الذي لم يجابُوا إليه، وليس لمجرد التكذيب.
رد الله عليهم بجوابين:
الأول: أنه لو أنزلنا ملكا يمشي على الأرض، يرونه مع النبي ﷺ، وخُرقت العادة لأجل طلبهم؛ لقضي الأمر بهلاكهم، فالألف واللام في (الْأَمْرُ) عِوَض عن المضاف إليه، أي: لتمّ أمر هلاكهم، ولتعجل العذاب لهم إذا لم يؤمنوا؛ فإنّ سنة الله مع أنبيائه أن كل مَن خُرقت لهم العادة من أتباع الرسل عليهم السلام لِطلبهم المعجزة وكذَّبوا، تَعجلَ عذابهم، كما كان مع قوم صالح n، وأصحاب المائدة الذين كذبوا عيسى.
الجواب الثاني الذي رد الله به عليهم: أنه مع علمه باستهزائهم، وأنهم لا يطلبون بإنزال الملائكة الدليل على صدق الرسول كما يزعمون، فإنه على التنزل بأنهم ما طلبوا نزول الملائكة إلا ليؤمنوا إذا رأوها، فإن الحجة لا تزال عليهم قائمة، لأننا لو جعلناه ملكًا كما يريدون؛ لجعلناه رجلا، لأن الملك إذا نزل إليهم على صورته فلا يمكنهم الاختلاط به على صورته الملكية، فلا يطيقون ذلك، ولا يبصرونه، ولا يتأتى لهم التعامل معه، إلا إذا أتاهم في صورة رجل، وهو معنى (لَّجَعَلۡنَٰهُ رَجُلٗا).
ولو جاءهم على صورة رجل لالتبسَ عليهم الأمر، وتحيروا، فلا يستطيعون معرفة من يكلمهم، هل هو ملَك أم رجل، فيقع عليهم من اللبس والشكّ في صدقه مثل ما وقع في صدق محمد ﷺ؛ لأنه رجل، فوقعوا بطلبهم فيما فرُّوا منه.
فقوله (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) جوابٌ لشرط محذوف، والتقدير: ولو جعلناه ملكا للبسنا عليهم مَا يَلْبِسُونَ، حين يرون الملك في صورة رجل، و(مَا) في قوله (مَا يَلْبِسُونَ) مصدرية، أي: للبسنا عليهم لبسًا مثل لَبسهم الأول.
(وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ)(10)
قوله (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) إلى آخر الآية، هو عقوبة أخرى مضافة للعقوبة الأولى، محققة للمشركين، ومعطوفة على قولهم المستلزم للعقوبة في الآية قبلها (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) الذي حقيقته الاستهزاء، وليس طلب الحق، فقيل للنبي ﷺ: هم استهزؤوا بك، وليس هذا بِدعًا، فلقد استهزأ أقوامٌ برسل من قبلك، فأهلكهم الله بسبب استهزائهم، ونزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به ويكذبونه، فهؤلاء ليسوا استثناء، وسيصيرون إلى ما صار إليه أولئك.
فـ(حَاقَ) أحاطَ، و(بِالَّذِينَ سَخِرُوا) أي استهزؤوا (مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أحاط بالساخرين العذاب، واستأصلهم بسبب استهزائهم.
(قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ)(11)
هذا بيانٌ ودليل لأولي الألباب، حسيٌّ مشاهد، على ما نزل بالمستهزئين والمكذبين الماضين من العذاب، فتلك آثارهم وديارهم الخاوية شاهدة عليهم، سيروا في الأرض وانظروا فيها لتعتبروا بها، قال تعالى: ﴿فَتِلۡكَ بُیُوتُهُمۡ خَاوِیَةَۢ بِمَا ظَلَمُوۤا۟﴾([6])، وقال: ﴿وَعَادࣰا وَثَمُودَا۟ وَقَد تَّبَیَّنَ لَكُم مِّن مَّسَٰكِنِهِمۡ﴾([7])، فما عليكم إلا أن تسيروا لتنظروا هل بقيَ منهم أحدٌ؟ قال تعالى: ﴿هَلۡ تُحِسُّ مِنۡهُم مِّنۡ أَحَدٍ أَوۡ تَسۡمَعُ لَهُمۡ رِكۡزَۢا﴾([8]).
وفي هذه الآية قال (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) وفي آيات أخرى: ﴿فَٱنظُرُوا۟﴾([9])، ولعل الأمر بالنظر بعد (ثمّ) يقتضى السير والتأمل وإمعان النظر مليًّا ومرارًا؛ لما تفيده (ثمَّ) مِن الترتيب الرتْبي، والترقي الحاصلِ من السير؛ لأنها في هذه الآية تتوعد المستهزئين، حتى يكفّهم تكرّرُ رؤية مصارع الهالكين عن استهزائهم، المستحسَن في نفوسهم، وفي الآيات الأخرى (فانظُرُوا) لعله لأن الأمر بالنظر فيها لمجرد الاعتبار.
(قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ)(12)
قوله (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلهِ) سؤال تذكير للمتجبرين والمستهزئين، وهو سؤال توبيخ وإنكار على أهل مكة ومن في حكمهم، حين يتجرؤون على أوامر الله، يستخفون بها ويردونها، مغترين بما هم عليه من قوة ومنعة، أو غنى ومال، ناسين ضآلة ما اغتروا به، وأنهم وما يجمعون ليسوا بشيء، وأنهم وما يملكون لا يخرجون عن قبضة الله وملكه، الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن.
فقوله (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) سؤال وجه إليهم للتذكير، ثم أجابهم الله عنه جواب تقرير وتبكيت (قُلْ لِلهِ) لأنه لا جواب عندهم غيره كما قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ﴾([10]).
و(كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أوجبَها، أوجب الله تعالى الرحمة على نفسه تفضلا منه وإحسانا، فالله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء، يفعل ما يشاء ويختار.
والرحمة صفة من صفات الله الحسنى، فهو أرحم الراحمين، ومِن أعظمِ أصناف رحمته بعبادهِ أن هداهُم للإيمانِ، وأرشدهم إليه بإرسال رسوله ﷺ، ومَن آمنَ منهم زاده إيمانًا وتوفيقًا، ومَن عصاهُ لم يعاجله بالعقابِ، أمهله ليرجع، أو لأجل أن يُخرِج من صلبه من يعبد الله.
وَفِي صحيح البخاري مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ h قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (إِنَّ اللهَ لَمَّا قَضَى الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)([11]).
وألْهَمَ اللهُ نبيه ﷺ صفة الرحمة وأودعها فيه، فكان حريصًا على إيمان قومه، حتى وهم أشدّ ما يكونون عليه بغضًا، وذلك حين ضاقتْ عليه الدنيا وجاءه جِبرِيلُ فَنَادَاهُ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)([12])، كما كان، فأبناؤهم قد دخلوا في دين الله، وحملوا لواء الإسلام، وكان من دعائه ﷺ: (اللهم اهدِ قَومِي فإنَّهُم لَا يَعلَمُونَ).
وجملة (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) مؤكدة بلام القسم ونون التأكيد، وهي وعيدٌ للمكذبين بما ينتظرهم، يوم يجمع الله الناس ويبعثهم من قبورهم، ليقفوا في صعيدٍ واحدٍ، وهو معنى القيامة، وجملة (لَا رَيْبَ فِيهِ) حالية، أي حالة كون يوم القيامة آتيًا لا شكَّ فيه، وفعل (يَجْمَعَنَّكُمْ) أصله أن يتعدى بـ(في)، وعدّي بـ(إلى) لتضمينه معنى البعث والسَّوق.
وجملة (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) متفرعة عن التحذير العام، الذي يخافه الناس يوم يجمع الله الخلائق للحساب، في قوله: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، فخص بالذكر تحذير الذين خسروا أنفسهم، ونُسب الخسران إلى النفس لأنها سببه، وذلك بالإعراض عن نداء الفطرة والعقل، وعن النظر في الأدلة والمعجزات، التي جاءهم بها الوحي، الدالة على صدق النبي ﷺ. فـ(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مبتدأ، وخبره (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) واقترن الخبر بفاء السببية لما في الموصول من معنى الشرط، فالموصول وصلته (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مضمَّن معنى الشرط، وقوله (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) في قوة الجواب، فيكون الخسران بهذا المعنى سببه عدم إيمانهم، كتسبب الشرط في الجزاء في قولك: إن خسروا فهم لا يؤمنون، وقولك إن رسبت فأنت لم تذاكر.
[1]) آل عمران: 167.
[2]) الجن: 8.
[3]) ابن إسحاق في السيرة النبوية: 2 – 132.
[4]) يس: 15.
[5]) الحجر: 7.
[6]) النمل: 52.
[7]) العنكبوت: 38.
[8]) مريم: 98.
[9]) النمل: 96، العنكبوت: 20، الروم: 42.
[10]) العنكبوت: 61.
[11]) البخاري: 6986.
[12]) البخاري: 3231، مسلم: 4676.