طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

 المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (318)

بسم الله الرحمن الرحيم

 المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (318)

 

[سورة الأنعام:19-21]

 

(قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ)(19)

يروى أن هذه الآية (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) نزلت ردًّا على المشركين، حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: سألنا اليهود والنصارى عنك، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، ولا يعرفونك([1])، فأنزل الله تعالى (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) شهادةُ الله لي بالرسالة أم ما تطلبونه من اليهود والنصارى؟ و(أيّ) اسم استفهام، لتمييز الاسم الذي أضيف إليها عن غيره، والشيء يطلق على كل موجود.

والاستفهام إنكاري توبيخي للمشركين؛ لأنهم طلبوا تزكية للنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، الذي زكاه الله واصطفاه للرسالة، فطلبوا تزكية الكفرة مثلهم ولم يقبلوا تزكية الله، فأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب سؤالهم، ويحملهم على الإقرار بما هو حق، وهو ما أجابهم به: قُلِ اللهُ أكبر شهادة، فشهادته أعدل وأقوى وأزكى وأقوم وأكبر؛ لأنه أكبر شيء في الوجود.

والبينية في قوله (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) معناها الذي يكون شهيدا بحقٍّ هو من تكون شهادته فاصلة بيننا لا شهادة بعدها، وقد شهد لي بالرسالة، وجملة (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) خبر مبتدأ محذوف، أي: هو شهيد، والضمير في (بَيْنِي) للنبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي إني أقرأ عليكم هذا القرآن الذي أوحي إلي؛ لأخوفكم به عاقبة تكذيبكم يا أهل مكة، وكذلك لأنذر به كل من بلغه القرآن إلى قيام الساعة.

ففي الآية إعلان بالبراءة من شركهم، وترك جدالهم بعد إقامة الحجة عليهم، فالنبي يقول لهم إنّي بريء من الذي تشركون به من الأصنام، والقرآن فيه النِّذارة والبِّشارة، واكتفي هنا بما يناسب المقام من التخويف وهو النِّذارة.

وفي قوله (وَمَنْ بَلَغَ) ما يدل على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لكل الخلق، وأنّ مَن لم تبلغه الرسالة ولم يبلغه القرآن معذور.

وقل لهم (أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى) وهو استفهام إنكاري على ما توافقوا عليه من الشرك، وأصل الكلام: إنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى، فدخلت همزة الاستفهام على حرف التأكيد وكاف الخطاب؛ لتفيد أن شهادتهم على أنفسهم بالكفر مؤكدة بمؤكدين، إنّ ولام التأكيد، والاستفهام الإنكاري لا يُنتظر له جواب؛ لأن جوابهم معروف وهو شهادتهم على أنفسهم بالكفر، فذكر الله تعالى لهم الجواب الذي أمر نبيه أن يقوله (قُلْ لَا أَشْهَدُ) على ما تشهدون به من الشرك (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

وقوله (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) عطف بيان على قوله (لَا أَشْهَدُ)، أي لا أشهد بالشرك، وأشهدُ بأنه إله واحد، و(إنما) أداة حصر، وهو قصر حقيقي، من قصر الموصوف على الصفة، أنّ الإله الحق هو إلهٌ واحد، وجملة: (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) عطف على قوله: إنما هو إله واحد، و(ما) في قوله (مِمَّا تُشْرِكُونَ) موصولة، والعائد على الصِّلة محذوف، تقديره: بريء من الذي تشركون به.

(ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمُۘ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ)(20)

قوله (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) إلى آخر الآية، انتقالٌ من محاجة المشركين إلى محاجة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، والإخبار عن مكابرتهم وإعراضهم عن الدخول في الإسلام، والحال أنّ كُتبهم تبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتذكر لهم اسمه وصفته ورسالته، وأنه رسول الله إلى النّاس كافة.

وفي كتبهم ما هو من دين هذا الرسول الذي يكذبونه وسيخبرهم به، ولذا كان اليهود يختبرون -بما علموه من كتبهم- النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان يجيبهم على وفق ما عرفوا من كتبهم، ويتبين لهم صدقه، فهم على يقين بأنه نبي مبعوث من عند الله، ومعرفتهم له معرفة كاملة لا تلتبس، كما يعرف الواحد منهم ابنه حين يلقاه، لا يلتبس عليه، ومع هذا جحدوا ما علموه، وتعاونوا مع المشركين على إنكار أنهم عرفوه، كما جاء في سبب نزول الآيات السابقة([2]).

ورجوع الضمير في قوله (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ) على النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر، للعلم به من السياق في قوله (لِأُنذِرَكُم بِهِ ‌وَمَن ‌بَلَغَ)، وقوله (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) تقدم نظيره قريبًا، والكلام فيها كالكلام هناك([3]).

(وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ)(21)

الاستفهام في قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) للإنكار عليهم، واستعظام افترائهم وكذبهم على الله، والافتراء: الكذب المتعمد، وقوله (كَذِبًا) مفعول مطلق مؤكد لفعل الافتراء؛ لأنه بمعناه، فظلم المشركين أكبر الظلم، وهم الذين افتروا الكذب على الله وتعمّدوه، كقولهم الملائكة بنات الله، وقولهم عن آلهتهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقوله (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) أو كذب بالمعجزات الدالة على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسها القرآن.

وعطف التكذيب بالمعجزات على شركهم الأول بحرف العطف (أو) بدل الواو؛ ليفيد أن التكذيب بها كفر مستقل بذاته، ولو لم يكن معه غيره، وقوله (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) حكمٌ عام على الظالمين بالخسران وعدم الفلاح، وهو خسرانٌ عام في الدنيا والآخرة، هذا في الظالمين، فكيف بمن افتروا على الله الكذب، وكانوا أظلم الناس.

وقد تقدم الجواب على أفعل التفضيل في قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) في نظير هذه الآية، عند قوله: ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ‌مَّنَعَ ‌مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ﴾([4]) في سورة البقرة.

[1]) أسباب النزول للواحدي: 216.

[2]) ص: 77.

[3]) ص: 71.

[4]) البقرة: 144.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق