طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (324)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (324)

[سورة الأنعام:46-50]

 

(قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمۡعَكُمۡ وَأَبۡصَٰرَكُمۡ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَأۡتِيكُم بِهِۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ هُمۡ يَصۡدِفُونَ)(46)

افتتاحُ الكلام بالأمر (قُلْ) ينبي بأهمية مضمونِ ما يأتي بعدها، من تنوع الحججِ في مجادلة المشركين (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ) الهمزة للاستفهام، للتعجيب من حالهم، والرؤية قلبية، وأخذ الله سمعكم: سلبَ الله حاسة السمع منكم، والسمع مصدر يراد به الجنس يفيد العموم، فهو في حكم الجمع المضاف يفيد العموم، وأبصاركم: أعينكم، أو حاسة الإبصار منكم، والختم على القلوب: الغلق المحكم، الذي لا يسمح بدخول شيء إلى قلوبكم، و القلوب هي العقول؛ لأن القلب هو الذي يمد العقل في الدماغ بأسباب الحياة.

وقوله (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي أخبروني إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وسلبها منكم من يقدر أن يردها عليكم غير الله، فـ(مَن) في قوله (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ) للاستفهام، يمكن أن يراد منه تقريريهم على ما هو مسلّم به في نفوسهم، بأنه لا أحد غير الله يقدر على ردِّ ما أخذ منهم لو أخذ، ويصح أن يكون الاستفهام إنكاريًّا للنفي، لا أحد غير الله يقدر على رد ما أخذه منكم، والضمير في (بِهِ) يعود على المذكور من السمع والبصر، وذهاب العقول.

والأمرُ في (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ) للتعجّب، والخطابُ لكل ناظر يتأتى منه النظر، ليتأمل في حالهم العجيبة كيف نصرّف وننوع ونكرر لهم الحجج، وتتنوع لهم الدلائل والبراهين، على وجوه مختلفة ومتكررة، بالتخويف والترهيب أحيانا، وبالترغيب وإجراء النعم أحيانا أخرى، ثم هم مع ذلك كلِّه يميلون ويبتعدون عن الطريق السوي والحقِّ البين الواضح، فـ(يصدفون) من صدف بمعنى مال وابتعد عن الطريق، وحرف العطف (ثم) أفاد استبعاد حصول ما حصل منهم، أي: ما كان ينبغي لهم أن يكونوا كذلك مع هذا الوضوح في الأدلة والبراهين.

(قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ بَغۡتَةً أَوۡ جَهۡرَةً هَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلظَّٰلِمُونَ)(47)

في الآية تخويف للمشركين من هذه الأمة وتحذير لهم، من المضيِّ في الإعراض بعد وضوح الدلائل.

والمعنى: أخبروني لو (أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ) على صورة من الصور المتكرر وقوعها بين الأمم الماضية؛ بغتة وخفية، أو علنا وجهرة، حينها ما أنتم فاعلون؟ إنكم لا تُهلكون، ولا تظلمون إلا أنفسكم فالله لا يهلك إلا القوم الظالمين.

وقوله (أَرَأَيْتَكُمْ) تقدم الكلام عليها آنفا([1]) (بَغْتَةً) فجأة دون توقع (أَوْ جَهْرَةً) علنا، وقوبلت البغتة بالعلن لأن البغتة تأتي دون توقع، ففي مجيئها نوع خفاء، والاستفهام في قوله (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) إنكاري، أي لا يهلك الله إلا القوم الظالمين، ويقع الظلم في القرآن كثيرا على الشرك، كما في قوله: ﴿ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ‌وَلَمۡ ‌یَلۡبِسُوۤا۟ إِیمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ﴾، وأُتي بالظاهر (الظَّالِمُونَ) بدل الضمير؛ للمناداة بظلمهم والحكم عليهم به.

(وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۖ فَمَنۡ ءَامَنَ وَأَصۡلَحَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ)(48)

بينت الآية وظيفة الرسل التي بعثوا من أجلها، فليست للتلهي بما يَظهر على أيديهم من الخوارق، وما يُقترح عليهم من الكرامات، فتلك ليست وظيفة الأنبياء، فما أرسلوا إلا حالة كونهم مبلِّغين رسالاتِ الله، مبشرين المؤمنين بالجنة، ومخوفين الكافرين بالنار، فمبشرين ومنذرين حالان، فيهما معنى التعليل، أي أرسلوا لأجل ذلك.

وقوله (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ) تفريع مترتب على تبليغ الرسل لأقوامهم، فَمَنْ آمَنَ منهم وَأَصْلَحَ فلا يخاف ولا يحزن، و(مَن) يصح أن تكون موصولة، فتكون مبتدأ وخبرها (فلا خوف عليهم) واقترن بالفاء لشبه الموصول بالشرط، ويصح أن تكون شرطية، جوابها (فلا خوفٌ) اقتَرن بالفاء لأنه جملة اسمية، و(أصلَحَ) أي أتى مع الإيمان بالعمل وَفق الشريعة، فلا خوف عليهم من العذاب، ولاهم يحزنون عما يفوتهم من الثواب.

(وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَمَسُّهُمُ ٱلۡعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ)(49)

جملة (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) عطف على من آمن، والذين كذبوا هم المشركون، أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات آمنون من العذاب، والمشركون الذين كذبوا القرآن وما جاءهم به الرسول من المعجزات سينزل بهم العذاب العظيم المعهود الذي توعدهم الله به بسبب كفرهم وعصيانهم، فالآيات التي كذبوا بها هي الأدلة والمعجزات القرآنية والكونية.

و(يَمَسُّهُمُ) يصيبهم وينزل بهم، و(ال) في (الْعَذَابُ) للعهد، أي يمسهم ويصيبهم العذاب العظيم المعهود، وأسند المسّ إلى العذاب، حتى كأنّه هو الذي يلاحقهم ويطاردهم، والباء في (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) للسببيّة، و(ما) مصدرية، يصيبهم العذاب بسبب فسقهم، والفسق أصله الخروج، ومعناه في الشرع الخروج عن طاعة الله وأوامره، وعن الالتزام بالأحكام، ويطلق على الكفر تارة، وتارة على ما دون الكفر، مما هو من كبائر المعاصي.

(قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ)(50)

بعد أَن بيّن القرآن للمشركين أن وظيفة الرسل هي البلاغ بالبِشارة والنِّذارة، ولم يبعثوا للتلهي بما يظهره الله تعالى على أيديهم من خوارق العادات، أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولَ للمشركين ثلاثة أمور، تؤكد على ما سبق، وتصرفهم عن التعلق بما لم يرسلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأجله:

الأول: (لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ) أي: لا أدعي الإلهية والقدرة على الأرزاق، وقسمتها بين الخلق، أو القدرة على المنع والعطاء، ما أنا إلا بشر رسول، فالخزائن جمع خزانة أو خزينة، ما توضع فيه نفائس الأموال.

الثاني: وقل لهم (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي لا أدّعي الإلهية بعلم الغيب، إلا ما يوحيه الله إليَّ، وأعيد النفي في قوله (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ولم يكتف بالنفي الأول في قوله (لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ) للدلالة على أن كل جملة مقصودة بالنفي استقلالا، لا نفي المجموع.

الثالث: وقل لهم (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أي لا أدعي أني ملك من الملائكة، يبلغكم الرسالة كما طلبتم، لأجل أن تؤمنوا، فما أنا إلا بشر، فلما نفى عن نفسه هذه الصفات الثلاث، فكأن سائلا سأل وقال: ما الأمر المكلف به إذًا؟

فكان جوابه (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) ما أتبع إلا ما أمرني به ربي، من تبليغ وحيه ورسالته؛ لأكون بشيرًا ونذيرًا، لا ما تطلبونه مني من المعجزات لتتلهوا به، أو تطلبونه عنادًا؛ لتجدوني عاجزًا عن الإتيان به، والاستفهام في قوله (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) إنكاري، أي قل لهم لا تستوي الضلالة والهدى، فمن جاءته الآيات وانتفع بها وآمن فهو البصير، الذي تبين له موضع قدمه، وعرف طريقه فاهتدى، ومن جاءته الآيات واضحة وضوح الشمس، فأعرض عنها وتنكبها، فهو الأعمى، الذي لم يبصر طريقه، وضل عن سواء السبيل.

وتقدير جواب الاستفهام في قوله (هَلْ يَسْتَوِي) لا يستوون، فكل من الأعمى والبصير للجنس لا لواحد بعينه، والاستفهام في (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) للإنكار عليهم على تعطيل عقولهم، أليس لديكم عقول تفكرون بها، تُبَصّركم بما ينفعكم حتى لا تهلكوا، أين ذهبت عقولكم؟!

 

[1])         ص: 102.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق