طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (326)

بسم الله الرحمن الرحيم 

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (326)

 

[سورة الأنعام:54-58]

 

(وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ)(54)

جملة (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا) عطفٌ على (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) فبعد أن أمر الله نبيه بصد المشركين والإعراض عنهم، فيما طلبوه من تقديمهم في مجلسه وإبعاد المستضعفين، أمره إذا جاءه المؤمنون المستضعفون الذي يذكرون ربهم بالغداة والعشي، أن يقول لهم ما يسرهم، ويبشرهم بأنهم آمنون سالمون من عذاب الله، وهم مرحومون بالرحمة التي كتبها الله على نفسه، وأنه من عمل منهم سوءًا وإثما أساء به إلى نفسه، حالة كونه متلبسا بالسفه والحمق، أو بجهل وعدم علم، مَن فعل ذلك ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعدِه وَأَصلَحَ، ورجع إلى الله، وتدارك ما فسد منه بالمعصية، فأصلحه بالطاعة والعمل الصالح؛ فالله يغفر له ويرحمه ولا يعذبه؛ تفضلًا منه.

فالباء في قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا) صلة لِيُؤمنون، أو للسببية، والآيات هي القرآنية، أو بمعنى الحجج والدلالات، فقد بشر الله المؤمنين الذين مُدحوا في هذه الآية بأمرين؛ بأنهم يؤمنون بآياته القرآنية وبحججه ومعجزاته، المؤيدة لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يقترحون آيات أخرى غير التي جاءتهم كما فعل المشركون، هذه هي البشارة الأولى لهم، وهي الشهادة لهم بالإيمان.

والبشارة الثانية هي في قوله (فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) ومعناه تبليغ السلام إليهم من ربهم، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر إذا دخلوا عليه أن يبدأهم بالسلام، خصوصية لهم على خلاف العادة، أنَّ السلامَ يكون من القادم على الجالس لا العكس، والسلام معناه الأمان، ورده يكون بعليكم السلام، ويجوز رده باللفظ نفسه، كما قال تعالى: ﴿إِلَّا قِیلࣰا ‌سَلَٰمࣰا ‌سَلَٰمࣰا﴾([1]).

وجملة (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) لم تُعطف على جملة (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) لأن (سَلَامٌ) جملة دعائية إنشائية، و(كَتبَ) خبر من الله، يبشرهم فيه بسعة رحمته، فقد أوجب الله الرحمة على نفسه، تفضلا منه على عباده، والله لا يجب عليه شيء سبحانه وتعالى، وجملة (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ) على قراءة فتح همزة (أنّه) بدلُ اشتمال مِن (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وعلى قراءة كسر الهمزة الجملة مستأنفة، كأن سائلا قال: وما هذه الرحمة؟ فقيل: إنه من عمل منكم سوءا، و(مَن) شرطية، وهذا إضافة تفضل آخر من الله على عباده، بعد التفضل عليهم بالرحمة، وهو أنّ مَن أساءَ إلى نفسه وارتكب إثمًا (بِجَهَالَةٍ) وسفهٍ ثم تاب، فإنّ الله يغفر له، والباء في قوله (بجهالة) للملابسة، والجهالة من الجهل، وله معنيان؛ الأول: عدم العلم بالشيء أو بمضارِّه، والثاني: الجهل بمعنى ارتكاب المخاطرة دون النظر إلى العواقب، وهو معنى السفه والحمق، والظرف (بِجَهَالَةٍ) في موضع الحال المؤكدة، وقوله (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هو دليل جوابُ الشرط لقوله (مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا) أي من عمل منكم سوءا وتاب غفر الله له وتجاوز عنه.

ووُصِف مَن فعل السوء بالجهل إمّا لأنه جاهل بمضار عمله، لم يدرِ عواقبَه، وإما لأنه لما لم يعمل بعلمه كان هو والجاهل سواء، ودخل في هذا التفضل بالمغفرة الذين يدعون ربهم بالغداةِ والْعَشِيّ دخولًا أوليًّا.

(وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِتَسۡتَبِينَ سَبِيلُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ)(55)

أي مثل هذا التفصيل المتقدم لأحوال المؤمنين وأحوال المشركين البين الواضح، نفصل آيات القرآن في أحوال أهل الإيمان وأهل الضلال بصفة عامة؛ ليظهر الحق، ولتعلم حقيقة أمرهم، فتستبين طريق المجرمين، وتعلم ما خفي عليك من عنادهم ومكرهم.

أو نفصل الآيات القرآنية، والمعجزات والبراهين العقلية، فصلناها وبيناها لتقام الحجة على المجرمين، فلا تبقى لهم على الله حجة، كما قال تعالى: ﴿أَن تَقُولُوا۟ ‌مَا ‌جَاۤءَنَا ‌مِنۢ بَشِیرࣲ وَلَا نَذِیرࣲۖ فَقَدۡ جَاۤءَكُم بَشِیرࣱ وَنَذِیرࣱ﴾([2]).

و(الْمُجْرِمِينَ) المشركين، أي لتستبينَ أحوال المشركين والمؤمنين، واكتفي بذكر المجرمين؛ لأن الآيات في الرد عليهم ومحاجتهم.

(قُلۡ إِنِّي نُهِيتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ قُل لَّآ أَتَّبِعُ أَهۡوَآءَكُمۡ قَدۡ ضَلَلۡتُ إِذٗا وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ)(56)

قل للمشركين: إن الله نهاني وصرفني عن عبادة الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وتلتمسون نفعها وضرها؛ لأَنِّي لا أتبع أهواءكم، وأنِّي على بينة من ربي، ولو عبدت ما تدعونه أنتم من دون الله لاتبعتُ أهواءكم، وحينها أكون قد ضللت وما أنا من المهتدين.

فـ(تَدعُونَ مِن دُونِ ٱللهِ) تعبدون من دون الله، أو ما تسمونهم آلهة تلتجؤون إليهم، وتجعلونهم شفعاء تنادونهم وتشركون بهم، وقوله (مِنْ دُونِ اللهِ) أي: وتتركون عبادة الله؛ لأن من أشرك مع الله غيره تركه، ولم يعبده، و(مِنْ دُونِ اللَّهِ) حالٌ متعلق بتدعون.

وجملة (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ) مستأنفة، واقعة موقع التعليل لما قبلها، وجملة (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) واقعة في جواب شرط محذوف، تقديره: إن اتبعت أهواءكم قد ضللت إذًا، وقوله (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) جملة مؤكدة لمضمون (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا) لأن نفي الهدى معناه الضلالة، وقوله (وَمَا أنَا مِنَ المُهْتَدِينَ) أبلغ في نفي الهداية من: وما اهتديت.

(قُلۡ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبۡتُم بِهِۦۚ مَا عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦٓۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ يَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰصِلِينَ)(57)

قوله (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) متصل بما قبله، فهو زيادة في تأييس المشركين مما طلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم، في أن يجاملهم في طلبهم بإبعاد الذين يدعون ربهم وتقريبهم هم؛ رجاء إسلامهم، فجاء (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) تأكيداً في تيئيسهم.

وكان المشركون يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهو القرآن، كما قال (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) ويصفونه بأنه ساحر ومجنون، ويحملهم الإفراط في العناد على التحدي باستعجال العذاب الذي يُتوعدون به، فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كان الذي جئت به حقًّا فأنزل علينا العذاب، ماذَا تنتظر؟ كما أخبر الله عنهم في عدة مواضع، منها قوله: ﴿وَإِذۡ قَالُوا۟ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ ٱلۡحَقَّ مِنۡ عِندِكَ ‌فَأَمۡطِرۡ عَلَیۡنَا حِجَارَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ أَوِ ٱئۡتِنَا بِعَذَابٍ أَلِیمࣲ﴾([3])، فأمره الله تعالى أن يرد عليهم، بأن العذاب الذي يستعجلونه ليس عنده (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) لا يملكه ولا قدرة له عليه، ولا يعلم حتى متى يكون، بل هو لله تعالى، فهو القادر عليه وحده، وله فيه حكمة، ولا يعجلُ لعجَلَةِ أحد إِن الْحُكْمُ إِلَّا له، هو يحكم بين عباده حسب مشيئته وحكمته، ولذلك لم يمكّن منه أحدًا، فهو يقصُّ الحقَّ ويخبر بالحق، وحكمه وخبره أرفع شأناً وأعظم حكماً، فمقاديره كلها وفق الحكمة والحق، كانت بعذاب أو بغيره، فهو خير من يفصل في الأمور ويأتي بقواطعها المسدَّدة في مواضعها، ويبينها أتم بيان.

والبينة بمعنى الحجة والبرهان، بمعنى ما حصل به البيان، وهو القرآن، أي إني على حجة ويقين ودلائل واضحة من ربي، ويكون قوله (مِنْ رَبِّي) صفة لـ(بَيِّنَةٍ)، أي على حجّة وبينة كائنة من ربي، ويكون ضمير (بِهِ) يعود على البينة بمعنى البيان أو بمعنى ما حصل به البيان وهو القرآن، أي على علم بما جاءني من الحجج وبينات القرآن، الذي أوحى الله به إليّ، لأجل معرفة ربي.

وجملة (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) حالية، أي والحال أنكم كذبتم بالله وبحججه، والفاصلين من الفصل، والفصل قطع الشيء وإنهاؤه، ويوصف به القضاء، كما في قول عمر لأبي موسى رضي الله عنهما: “وإياك والفصل بين القرابات، فإنه يورث الضغائن”([4])، ويوصف به القول، قال تعالى: ﴿وَءَاتَیۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ ‌وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ﴾([5])، ففصل القضاء حكمه الذي ينتهي به الخصام، وفصل الخطاب مقطعه الذي تنتهي به الحجج، فهو خير الفاصلين والقاضين، فلا أرفع ولا أبيَنَ من خطابه، وهو خير من يقضي بين الناس، ويفصل بين الخصوم.

(قُل لَّوۡ أَنَّ عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦ لَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۗ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِٱلظَّٰلِمِينَ)(58)

لو كان العذاب الذي تستعجلون به عندي أملكه، وكنت قادرًا عليه لقضي أمر النزاع بيني وبينكم وانتهى، وذلك بنزول ما طلبتموه من العذاب، ولما أمهلتكم، بل لغضبت وأنزلته بكم؛ انتقامًا لربي، أو لأتيتكم بما اقترحتموه من نزول المعجزة فتؤمنوا بها، فإما أن تؤمنوا بها أو يأخذَكم العذاب، ولكن الأمر إلى الله، فهو أعلم بمن يعجل عقابه مِن الظالمين، ومَن ينتظره، فقوله (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) جواب (لَوْ أَنَّ عِنْدِي)، وقضاء الأمر الفراغ منه وإنهاؤه، ولم يقلْ والله أعلم بهم بل (أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) لتسجيل الظلم عليهم، ووصفهم به.

 

[1])    الواقعة: 26.

[2])    المائدة: 19.

[3])    الأنفال: 32.

[4])    في مصنف عبدالرزاق: 15304، بلفظ: “ردوا الخصوم حتى يصطلحوا؛ فإن فَصْلَ القضاء يورث الضغائن بين الناس”.

[5])    سورة ص: 20.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق