المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (327)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (327)
[سورة الأنعام:59-62](وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ)(59)
جملة (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) عطف على قوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) فعلم الله ليس قاصرًا على من يعجل له العقوبة من الظالمين ومن لا يعجل وحسب، بل عنده علم الغيب كله.
والعندية في قوله (وَعِندَهُ) عنديةُ استئثار بالعلم واحتواء، لا عندية مكان، فالمعنى: وعنده مَلاكُ علم الغيب ملك سيطرةٍ واحتواء وإحاطة، استأثر به وحده، لا يُتوصل إليه إلا منه، ومستودع مخازن الغيب كلها عنده، لا يعلمها غيره، وفي الحديث: (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ: إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَیُنَزِّلُ ٱلۡغَیۡثَ وَیَعۡلَمُ مَا فِی ٱلۡأَرۡحَامِ وَمَا تَدۡرِی نَفۡسࣱ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدࣰا وَمَا تَدۡرِی نَفۡسُۢ بِأَیِّ أَرۡضࣲ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرُۢ)([1]).
وتقديم الظرف (عنده) على المبتدأ (مَفَاتِحُ) للاختصاص، والمفاتح إما جمع مِفتح، وهو المفتاح الآلة التي يفتح بها، كما قال تعالى عن قارون: ﴿مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُو۟لِی ٱلۡقُوَّةِ﴾([2])، وإما جمع مَفتَح، وهو المخزن والمستودع.
والغيب كل ما غاب عنَّا، سواء تعلق بالماضي أو المستقبل، و(ال) في الغيب للاستغراق، تعم كل غيب، ويستثنى منه ما أوحى الله به إلى أحد من رسله، وما نصب عليه دليلا يدركه بعض خلقه بعلم وأمارة، أو بتجربة وتكرر عادة؛ كمسائل الطب والتداوي، وكمعرفة أوقات الحر والبرد، ونحو ذلك، وما دلت عليه الأمارة والعادة لا يكون علمًا، بل ظنّا يغلب أن يصادف، وقد يتخلف.
وقوله (لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) جملة مؤكدة لما قبلها، لذا لم تعطف عليها، وهي تفيد قصر علم الغيب على الله، أي أن علم الغيب لا يعلمه كما هو – ابتداء واستقلالا – إلا الله، وهذا لا يمنع أن يكون لغير الله علم مستمد من علم الله، بوحي أو إلهام، قال صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ، فَإِنَّهُ عُمَرُ)([3])، وقال تعالى: ﴿عَٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ فَلَا یُظۡهِرُ عَلَىٰ غَیۡبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولࣲ﴾([4]).
وجملة (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) عطف على (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) من عطف الخاص على العام، للدلالة على إحاطة علم الله تعالى بالتفصيلات، بعد ذكر العلم الكلي الشمولي، و(مَا) في قوله (مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) اسم موصول، والذي في البر والبحر بعض الغيب، خصّ بالذكر لأنّه قريب منّا مشاهد، والغيب قبله في قوله (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) عام، يشمل كل غيب مما يتعلق بأمر الدنيا والآخرة، ثم عطف عليه زيادة في الإحاطة قوله (مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) والاستثناء في قوله (إِلَّا يَعْلَمُهَا) مفرّغ، والجملة بعد (إِلَّا) حالية، فما من ورقة من ورق النبات إلا يعلم بها، يعلمها وقت سقوطها وقبله وبعده، و(من ورقة) نكرة في سياق النفي، تعم كل ورق من نبات وشجر، وتأكد العموم بدخول مِن الاستغراقية على النكرة.
(وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ) ظرف مستقر في موضع الحال، والمستثنى في قوله (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) بدل اشتمال من قوله (إِلَّا يَعْلَمُهَا) فيعلم سبحانه وتعالى الحبة إن كانت تنبت أم لا تنبت، ومتى تنبت، وكم تُنبت، ومَن يأكلها، إلى غير ذلك من أحوالها، يعلمها حالة كونها في ظلمات الأرض، في جوفها، وفي ظلمة ليلها.
(وَلَا رَطْبٍ) من الأشياء مما فيه خضرة أو ليونة أو سيولة، أو ما في حكمه (وَلَا يَابِسٍ) جامد، أو ما في حكمه، ما من شيء من ذلك إلا معلوم لله في كتاب مبين وثابت أزلا في اللوح المحفوظ، الذي أثبت الله سبحانه وتعالى فيه المقدرات، قبل أن يخلق السموات والأرض، كما قال تعالى: ﴿إِلَّا فِی كِتَٰبࣲ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَاۤ﴾([5])، وفيه دليل على شمول علم الله وإحاطته بالكليات والجزئيات، صغيرها وكبيرها، ودقائق تفصيلاتها، وهو أبْيَن ردّ على الفلاسفة، الزاعمين أن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات.
(وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ)(60)
أي: الله سبحانه هو الذي يرسل عليكم النوم بالليل، ويعلم ما أصبتم وكسبتُم بالنهار من عمل، فهو يعلم نومكم ويعلم كسبكم وعملكم بالنهار، وذكر كسب النهار جرى مجرى الغالب من أن الكسب يكون بالنهار، فإن الله يعلم ما كان بالليل أيضا من كسب كالتبييت والمكر وغيره.
والإخبار بعلم الله بذلك مقصود به عامة الناس، ويدخل فيه المشركون الذين يعبدون الأصنام دخولا أوليا، وإخباره بأنه يعلم عملهم هو وعيد لهم، فالله تفضل أن جعل الليل على الناس للسكن والراحة، ثم إذا استيقظوا بالنهار منهم من اكتسب الآثام وعادى الإسلام وأهله وعبد غير الله، وقد علم الله ذلك منهم، فعليهم أَن يستعدوا للعواقب.
وأصل الوفاة الموت؛ لأن الله يقبض فيه العمر مستوفى، وتطلق على النوَّم؛ لأنه يشبه الموت في فقد الإحساس، فهو استيفاء جزئي، ويسمى الموت الأصغر، قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ یَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِینَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِی لَمۡ تَمُتۡ فِی مَنَامِهَاۖ فَیُمۡسِكُ ٱلَّتِی قَضَىٰ عَلَیۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَیُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمًّى إِنَّ فِی ذَٰلِكَ لَءَایَٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ﴾([6])، وأصل جرحتم من الجَرح، وهو إسالة الدم بسكين ونحوه، ومنه الجوارح للمعلَّم من كلاب الصيدِ وطيرِه، قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِینَ﴾([7])، لأنها تجرح الفريسة وتحبسها ليأتيها الصائد، وتسمى أيضا الكواسب جمع كاسب، فهي تسعى وتكسب لغيرها، ومنه قولهم: فلان جارحة أهله، أي كاسبهم، يسعى عليهم.
وضمير (فِيهِ) يعود إلى النهار، أي: يبعثُكم ويفيقُكم ويوقظُكم في النهار، وكما سميَ النوم موتًا سُميتِ الإفاقة منه بعثًا؛ ليستدلّ بالإفاقة من الموتِ الأصغر على البعثِ بعد الموت الأكبر، وهو ما ينكرونه.
والأجل في قوله (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى) تتميم مدة العمر، والمسمى: المقدر المحدد للأعمار، أي إن الناس يستوفون أعمارهم ويتقاضونها شيئا فشيئا، بين نوم ويقظة، وذلك لأجل أن يستعملوها، ويصلوا بها إلى نهايتها في الأجل المحدد لهم، ثم إلى الله مصير الخلائق إذا جاء الأجل وحصل الموت، فجميعهم يصيرون إلى الله، للحساب والعرض، ثم بعد ذلك ينبئكم ويخبركم بأعمالكم، وتجدونها محصاة وقت الحساب، في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
(وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۚ أَلَا لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَهُوَ أَسۡرَعُ ٱلۡحَٰسِبِينَ)(61-62)
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) أي الله سبحانه هو الغالب المسيطر على عباده، لا يخرجون عن إرادته وسلطانه.
وهو الذي يبعث عليكم ملائكة حفظة لحفظ أعمالكم وإحصائها، كما قال تعالى: ﴿مَّا یَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَیۡهِ رَقِیبٌ عَتِیدࣱ﴾([8])، والخطاب في قوله (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ) وإن كان عامًّا فدخول المشركين فيه أوليٌّ؛ لأن الآيات السابقة واللاحقة في إقامة الحجج عليهم، وهو خطاب يجري مجرى الوعيد؛ لأن العبد إذا علم أن كل أعماله تحصى عليه، كان أشد حذرا من المعاصي، وألزم للطاعة، صونا لنفسه وحفظا لها أن تعذب.
فالحفظة جمع حافظ، الرقيب والمحصي، من الحفظ بمعنى الرقابة والمحاسبة، وأيضا بمعنى الرعاية والعناية، كما في قوله: ﴿حَٰفِظَٰتࣱ لِّلۡغَیۡبِ﴾([9])، ﴿یَحۡفَظُونَهُ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ﴾([10])، والله من أسمائه الحفيظ، الذي يحفظ عباده ويرعاهم.
وقوله (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) أي: حتى إذا حان الأجل وانتهى العمر، قام الرسل من الملائكة الموكلين بقبض الأرواح الذين لا يعلم عددهم إلا الله بقبض الأرواح في آجالها دون تهاون ولا تفريط.
ودلت الآية على أن الأجل هو الذي يأتي، وقوله: توفّته أي قبَضت روحه، ورسلنا: هم الملائكة الموكلون بقبض الأرواح، الذين يعينون ملك الموت، ورسلنا جمعٌ مضاف، يفيد العموم والكثرة، لا يعلم عدد الذين يقبضون الأرواح من الملائكة إلا الله ﴿وَمَا یَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾([11]) وجملة (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) حالية، أي والحال أنهم لا يفرطون في قبض الأرواح في أوقاتها، والتفريط: التهاون والتضييع، فهم يقومون بالعمل الموكل إليهم على أكمل وجه، حالة كونهم غير متهاونين بتأخير، ولا مفرطين بتضييع.
وضمير الجمع في (رُدُّوا إِلَى اللَّهِ) يعود إلى أحد في قوله (إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ) الصادق بكلّ أحد، فمعناه الجمع، لذا عاد عليه ضمير الجماعة في (ردوا)، وأفرد مع الموت في قوله (أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) لأن الموت يأتي على الانفراد، وجمع في ردوا لأن الرد إلى الله في الحشر جماعي، والرد إلى الله هو الرد للجزاء والحساب؛ ليحكم بين عباده، و(مَوْلَاهُمُ) سيدهم ومالكهم، ومتولي أمرهم، و(الْحَقِّ) العدل، الذي لا معقب لحكمه.
(أَلَا لَهُ الْحُكْمُ) ألا أداة استفتاح، تأتي للفتِ الذهن إلى ما يذكر بعدها من خبر يسترعي الانتباه، وقوله (لَهُ الْحُكْمُ) تقديم الجار والمجرور للاختصاص، وقصرِ تولي الحكم على الخلائق إلى الله لا لغيره (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) يحاسبهم جميعًا في وقت واحد، لا يشغله حال عن حالٍ، سُئِلَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “كَيْفَ يُحَاسِبُ اللهُ الْخَلْقَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ؟ فَقَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، فَقِيلَ: كَيْفَ يُحَاسِبُهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ؟ فَقَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ”([12]).
[1]) البخاري: 4627، مسلم: 106.
[2]) القصص: 76.
[3]) البخاري: 3689.
[4]) الجن: 26، 27.
[5]) الحديد: 22.
[6]) الزمر: 42.
[7]) المائدة: 4.
[8]) ق: 18.
[9]) النساء: 34.
[10]) الرعد: 11.
[11]) المدثر: 31.
[12]) نهج البلاغة: 528.