المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (328)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (328)
[سورة الأنعام:63-67](قُلۡ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةٗ لَّئِنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنۡهَا وَمِن كُلِّ كَرۡبٖ ثُمَّ أَنتُمۡ تُشۡرِكُونَ)(63-64)
الخطاب في (قُلْ) للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي (مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) للمشركين، وقد صرح في آخر الآيات باسمِهِم في قوله (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) والاستفهامُ في قوله (مَنْ يُنَجِّيكُمْ) استفهام تقريري، وظلمات البرّ والبحر: الشدائد والمخاطر، وما يحيط بهم ويداهمهم من مصائب الدنيا بأنواعها، مما يقهرهم، ولا يجدون لدفعه عن أنفسهم سبيلًا، فإنهم يلجؤون فيه إلى الله، ولا يفزعون إلا إليه، فالظلمات كناية عن الشدائد، ولذا نرى من وقع في كرب شديد وأطبق عليه يقول: أظلمتِ الدنيا في عيني، مع أنه في ضوءِ النهار، ويصحّ أن تكون الظلماتُ محمولةً على الحقيقة، وهي ظلمةُ البرّ والبحر، التي إذا أطبقتْ على السائر تُوقعهُ في الحيرةِ والمهالكِ، في وسطِ الصحاري أو ظلماتِ البحار.
والمعنى: اسألهم مَن الذي ينجّيكمْ عندما تدْعُونهُ في الشدائدِ والظلماتِ، متذلّلينَ خائفينَ حتى أن ترفعُوا أصواتَكم، لئلّا يتنبه إليكم مَن حولَكم من حيوانٍ أو إنسان، تعلمون أنه اللهُ، فهو الذي تخافونه في الظلمات، وتعلمونَ أنه يسمعُكم فيما تُخفونه عن غيره، مبالغينَ في التذللِ إليه، حالفينَ الأيمانَ قائلين: لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لنكوننَّ من أهلِ الإيمان، ومِن الشاكرين، أقسموا هذه المرة ليكونُنّ كذلك، مِن الشاكرين نِعم اللهِ عليهم على الدوام، لا ينكثونَ ولا يعودُون؛ لأنهم لم يقولوا: لئن أنجانا شكرْنا، بل قالوا: لنكونَن مِن الشاكرين، لنكوننّ من الذين عُرفوا واشتهروا بالشكرِ في كل أحوالهم، لا ممنْ إذا وقعوا في شدةٍ شكرُوا، وإذا نجوا بَغَوا وتنكّروا، ومعنى (لَنَكُونَنَّ) أنّ كلَّ واحدٍ منّا ليكونَنّ شاكرًا؛ لأنّ مقابلة الجمع في قوله (أَنْجَانَا) بالجمع في قوله (لَنَكُونَنَّ) تقتضِي القسمةَ آحادًا، كما في قولك: ركبَ القوم خيلهم.
وجملة (تَدْعُونَهُ) حاليةٌ من الضمير العائدِ إلى اللهِ في قوله (يُنَجِّيكُمْ)، و(تَضَرُّعًا) منصوب على الحال، أي تدعونه متضرعينَ متذللينَ، و(خُفْيَةً) حال، لعطفه على تضرّعًا فله حكمه.
واللامُ في قوله (لَئِنْ أَنْجَانَا) لام القسم، والإشارة في قوله (مِنْ هَذِهِ) تعودُ إلى الشدّة التي حلّت بهم، وفزعُوا منها، وجملة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) جوابُ القسم.
وجملة (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) جوابُ الاستفهامِ في قوله (مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وهو جوابٌ متعينٌ، أخبرَهم اللهُ به، لأنه لا جوابَ لهم غيره، اللهُ هو الذي ينجيكُم من هذه الشدة، التي تضرعتم إليه برفعِها، وينجيكُم كذلك مِن كل كربٍ وشدة غيرها، قد تلمُّ بكم (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ثم شرككُم بعد هذا كلّه غايةُ العجب، كان الواجبُ وأنتم تقرُّون بأنه لا أحد ينجيكُم غيره أن تشكروهُ، ولا تكفروهُ، فإذا أنتم تشركونَ.
وحرفُ العطف (ثُمَّ) أفاد البُعد الرتبي؛ لاستبعاد ما وقع منهم، واستغرابه؛ ها أنتم بعد تضرعكم وأيمانكم التي حلفتُم بها تخلفونَ، وتقيمونَ على شرككم الأوّل، لا تتحولونَ عنه، وتقديم المسند إليه (أَنْتُمْ) على الفعل (تُشْرِكُونَ) للتعجيل بتقريعِهم وتوبيخِهم.
(قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبۡعَثَ عَلَيۡكُمۡ عَذَابٗا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ يَلۡبِسَكُمۡ شِيَعٗا وَيُذِيقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَفۡقَهُونَ)(65)
بعدَما تقدّم من إلجاءِ المشركين إلى الإقرار بأنهم إذا مسّهم الضر لا أحدَ ينجيهم إلا الله، وتعهدهم وقتَ المِحنةِ وحلفهم الأيمان: ﴿لَئِنۡ أَنجَیۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِینَ﴾، وما أن نجوا حتى نكثوا، وكان رفع الضر عنهم وقت الشدة إنما هو من باب الترغيب، انتقل بهم إلى التهديد والوعيد، فتوعدهم بقوله (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) فهو القادر لا غيره على أن يرسل عليكم عذابًا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، والذي أفاد الحصرَ تعريفُ طرفي الإسناد في قوله (هُوَ الْقَادِرُ) فهو القادر وحده على أن يرسل عليكم عذابًا من فوقكم بالريح أو الصعق أو الحصب بالحجارة، كعذاب عاد وثمود وأصحاب الفيل، أو من تحت أرجلكم بالغرق والخسف والرجفة، كعذاب فرعون وقارون وقوم لوط.
وهو القادر على أن يلبسكم شيعًا، فيجعلكم مختلفين اختلاف فرقة واختلاط، وتحزب إلى جماعات، يقع بينكم بسبب تفرقكم وتحزبكم الهرْج، وهو القتل، والمرجُ، وهو الفوضى واختلاطُ الحابل بالنابل، ويسوم بعضكم بعضًا سوء العذاب، وفي الحديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: (لَمَّا نَزَلَتْ: {قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ صلى الله عليه وسلم: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، قَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، قَالَ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، قَالَ رَسُولُ اللهِ: هَذَا أَهْوَنُ، أَوْ هَذَا أَيْسَرُ)([1])، وقال صلى الله عليه وسلم: (سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً؛ سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ (بالقحط والجدب) فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا فَأَبَى عَلَيَّ)([2]).
فقوله (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) يقال: لَبَس القوم بعضَهم إذا اختلطُوا واختلفُوا وتهارجُوا، و(شِيَعًا) منصوبٌ على الحال، جمع شيعة؛ الجماعة التي يجمعها فكرٌ واحدٌ، مذهب أو نحلة أو معتقَد، والبأس في (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) القتل.
والخطاب في قوله (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ) لكل معتبر وناظر، ومعنى انظر: أن الأدلة والبراهين التي أقامها القرآن على التوحيد، لوضوحها في العقول كأنها مشاهَدة، تُرى لكل ناظر، ومعنى (نُصَرِّفُ الْآيَاتِ) نكرر الأدلة والبراهين وننوعها، و(لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي هذا الوضوحُ في الدلائل والآيات، هو لأجل أن يصلَ الحق إليهم، ويعقلوه ويفقهوه، فتسقط حجة كل معاند.
(وَكَذَّبَ بِهِ قَوۡمُكَ وَهُوَ ٱلۡحَقُّۚ قُل لَّسۡتُ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ)(66)
جملة (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) عطف على قوله (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) فهم مع تصريف الآيات وتوضيحها لم يفقهوا، وكذّبوا، و(قَوْمُكَ) هم أهلُ مكة، ذكِروا بأنهم قومه، وكان الأجدر بهم أن يكونوا أولَ الناصرين له، وقد خصهم بالنصح بقوله: ﴿قُل لَّاۤ أَسۡءَلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِی ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾([3]).
أي: قل لقومك أهل مكة، ومن في حكمهم ممن يكذب تكذيبهم: لستُ مسؤولا عن أعمالكم وعنادكم، ولا عن إنزال العذاب بكم أو دفعه عنكم، فالحفيظ والوكيل عليكم هو الله، وما عليَّ إلا البلاغ، وقد بلغتكم وحذرتكم، قال الله تعالى: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُوا۟ فَمَاۤ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَیۡهِمۡ حَفِیظًاۖ إِنۡ عَلَیۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ﴾([4]).
وضمير (بِهِ) يعود إلى العذاب، أو إلى القرآن، وقوله عن الذي كذبوا به (وَهُوَ الْحَقُّ) يؤكد استحقاقهم للعذاب؛ لأنهم كذبوا بما هو حقّ لا مريَة فيه، ولا عذر لمن كذبه، والوكيل الحافظ، والموكَّل على شيء تلزمه رعايته وحفظه.
(لِّكُلِّ نَبَإٖ مُّسۡتَقَرّٞۚ وَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ)(67)
النبأُ يصلحُ أن يكون مصدرًا بمعنى الخبر المهم، ومستقرّه: غايتُه، ويصلحُ أن يكونَ النبأ بمعنى اسم المفعول المُنبَأ والمخبر به، وهو العذاب المتوعد بنزوله بهم، مِن عذاب الدنيا والآخرة، ويكون المستقَرّ اسمَ زمان، بمعنى وقت وقوع العذاب وحصوله (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وسوف تعلمون وقته حين يأتيكم، وهو تهديدٌ لهم بالعذاب.
[1]) البخاري: 4352.
[2]) مسند أحمد: 12589.
[3]) الشورى: 23.
[4]) الشورى: 48.