المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (329)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (329)
[سورة الأنعام:68-70](وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ)(68)
الخطاب في قوله (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا) للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، والجملة عطف على قوله (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) أي كذّب قومك بالقرآن، وإذا رأيتهم وهم يكذّبون به ويلغَوْن فيه ويستهزئون به فأعرضْ عنهم.
وهؤلاء الذين يخوضون في الآيات هم فريق من الكافرين، اشتد عداؤهم للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، وهذه الآية في معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَایَٰتِ ٱللَّهِ یُكۡفَرُ بِهَا وَیُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُوا۟ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ یَخُوضُوا۟ فِی حَدِیثٍ غَیۡرِهِ﴾([1]).
و(يَخُوضُونَ) من الخوض، أصله العبور في الماء، لا يُقدر عليه إلا بصعوبة وتكلف، وأكثر استعمال الخوض في القرآن للذم، فمعنى يخوضون في آيَاتِنَا أنهم يتكلفون غمرة الاستهزاء والكلام بالباطل في القرآن والآيات الكونية والمعجزات.
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) تحول وابتعد عنهم، ولا تبقَ معهم، والضمير في قوله (فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) عائد على الخوض، فالإعراض والتحول عنهم ليس غاية في ذاته، وإنما لِما فيه من الإساءة للدين، ولذا فغاية التحول عنهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) ينتهي النهي إذا خاضوا في حديث آخر، يتعلق بشركهم أو غيره، وليست فيه إساءة ولا استهزاء بالدِّين؛ لأن الجلوس معهم في غير وقت الاستهزاء مطلوب، من جهة أنه الوسيلة لدعوتهم إلى الحق، فإذا ما عادوا عاد النهي؛ لأن تعليق الحكم بالمشتق وهو الخوض، يؤذِنُ بعِليةِ ما منه الاشتقاق، فكلما وُجدَت العلةُ وُجدَ الحكم.
والخطاب في قوله (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ) للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى منه الخطاب، ونسبة النسيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الآية، يدلّ على أنه جائز عليه شرعًا، لكن نسيانه في تبليغ الوحي لا يقرّ عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي)([2])، وليس للشيطان سلطان عليه صلى الله عليه وسلم، وقد شقّ جبريل عليه السلام صدر النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، واستخرج منه حظَّ الشيطان، فقوله (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ) أي يَشغَلك عن طريق أوليائه أو مَن يوسوس لهم، يَشغَلُونك عما تريدُ، فتُنسَّى ما أُمرتَ به، وقوله (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي إذا أنساك الشيطان شيئًا من الوحي ثم ذكرته، فلا تقعد معهم بعد تذكركَ لما أمرتَ به من الوحي، فإنهم ظالمون.
(وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَيۡءٖ وَلَٰكِن ذِكۡرَىٰ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ)(69)
الذين يتقون هم المؤمنون، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد المتقين، والمعنى: لا جناح عليكم فيما سمعتموه من قبائحهم واستهزائهم قبل النهي، أو فيما سمعتموه وطَرَق أسماعكم عَرَضًا بعد النهي، في الطريقِ أو في المسجدِ الحرام، دون أن تجلسوا إليهم، فليس عليكم في ذلك من حسابهم من شيء، ولا تبعة ولا مسؤولية (وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ليس عليكم إلا تذكيرُهم وتخويفهم ودعوتهم (لعلَّهم يتّقونَ) لأجل أن ينتفعوا بما ذُكّروا.
(وَذَرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَعِبٗا وَلَهۡوٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ وَذَكِّرۡ بِهِ أَن تُبۡسَلَ نَفۡسُۢ بِمَا كَسَبَتۡ لَيۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ وَإِن تَعۡدِلۡ كُلَّ عَدۡلٖ لَّا يُؤۡخَذۡ مِنۡهَآۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أُبۡسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْۖ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ)(70)
جملة (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) عطف على قوله (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فلا تقعد مع القوم الظالمين وذرهم وأعرض عنهم، فإنهم اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، وفعل (ذَرْ) أمرٌ بمعنى اترك وأعرضْ، لا ماضي له، أماتَتِ العربُ ماضيه لثقله.
والذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا هم المشركون، عبدوا ما يلعبونَ ويتلهون به، وسميت نِحلَتُهم التي ملكت قلوبهم دينًا – وهي لعب وَلَهْو – لشدة تعلقهم بها، كتعلق المسلمين بدينهم، فإنهم مِن شدة تعلقهم الباطل بها صارت كتعلق القلب باللهو واللعب، فانخدعُوا بالحياة الفانية، وملكت عليهم قلوبَهم، وكانت هي غايتهم، حتى جعلوا اللهو واللعب دِينًا، فكانت حياتُهم الخمرَ وَالأَنصَابَ والأزلام، والغاراتِ والمُفَاخرة، فتعلقُوا بها، وأنكروا البعث والحياة الآخرة، التي هي خيرٌ وأبقَى، وتقدّم معنى اللهو واللعب في قوله (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) في هذه السورة.
وقوله (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أي خدعتهم، وضمير (بِهِ) في قوله (وَذَكِّرْ بِهِ) يعود إلى القرآن، فهو الوسيلة التي تذكرهم بالله وبالبعث، وبما أعدّه الله للمكذبين وللمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن یَخَافُ وَعِیدِ﴾([3])، وقوله (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ) أي وذكّر بالقرآن نفساً لئلا تُمنعَ من الثوابِ، وتُسلمَ نفسَها إلى هلاكها، أو لئلّا تكونَ حبيسةً رهينةً بأعمالها فتوبقها، والمعنى: وذكر المشركين بالقرآن، لئلا يهلكوا أنفسهم، فيمنعوها من الثواب، ويسلموها للعذاب، أو مخافة أن يكونوا مرهونين، محبوسين للعذاب بسبب أعمالهم.
وأصل الاستبسال معناه المنع، ومنه الباسل للجَلِدِ في القتالِ، واستبسلَ المقاتلُ امتنعَ؛ لأنه ممانعٌ مُنازِلَه أن ينالَ منه، و(نَفْسٌ) نكرةٌ وإن كانت في الإثبات فإنها تصدقُ بكل نفس، والعموم فيها يستفاد من السياق، كما في قوله: ﴿عَلِمَتۡ نَفۡسࣱ مَّاۤ أَحۡضَرَتۡ﴾([4])، فيصدق بكل نفس، والمصدر من أنْ والفعل (أَنْ تُبْسَلَ) إما مفعول به، بتقدير: مخافةَ إبسالها ووقوعها في الهلاك، أو مفعول لأجله، أي: لأجل ألّا تهلك، وبما كسبت: بما جنَتْ على نفسها.
وقوله (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) أي: ذكِّرهم بالقرآن، لئلا يقودهم عنادهم إلى العذاب بما جنَته أيديهم، وحينها لا ينفع الواحدَ منهم شيءٌ، فليس في ذلك اليوم ناصرٌ، ولا شافعٌ يشفع، ولا ينفع في دفع العذاب مِن أي جهة كانت، غير مَن أذنَ الله له، فجملة (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ) صفة لنفس، وضمير لها يعود على النفس، و(مِنْ) في (مِنْ دُونِ اللهِ) ابتدائية، والولي: الناصر (وَلَا شَفِيعٌ) أي ولا مُترجّ لطلب العفو يُسمع رجاؤه، فليس هناك ناصرٌ ولا شفيعٌ ينفعهم في دفع عذابِ الله عنهم.
وإن في (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا) شرطية، تدخل على فعل الشرط المشكوك في حصوله، و(تَعْدِلْ) تُعطِ فدية؛ أي وإن تعطِ النفسُ المرهونةُ بعملها السيءِ في القيامة كلَّ عطيةٍ لتفتديَ من العذابِ لا تُقبل منها، و(كُلَّ عَدْلٍ) منصوب على المفعول المطلق؛ لأن كلّ تُعرب بحسب ما تضاف إليه، أي وإن تعدل النفس وتفدي عدلًا وفديةً كبيرة لا تُقبل منها، فـ(كلّ) هنا تدلّ على الكثرة، أي كثرةِ ما يقدم في الفدية مِن المال، وفعل (يؤخذْ) مسند إلى ضمير منها، العائد على النفسِ، فهو نائب الفاعل للفعلِ (يؤخذْ)، والتقدير: لا يؤخذ منها أخْذ، أي: مهما قدّمَتْ فالأخذُ منها غير ممكنٍ، والمعنى: ليس لمن أسلم نفسه للهلاك بسبب شركه مِن ناصرٍ ولا شافعٍ، ومهما قدمتْ نفسُه من أموال كثيرة فدية لتفدي بها، فالأخذُ والقَبول منها غير ممكن في ذلك الوقت، قال تعالى: ﴿لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُ لِیَفۡتَدُوا۟ بِهِ مِنۡ عَذَابِ یَوۡمِ ٱلۡقِیَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾([5]).
والإشارة بـ(أُولَئِكَ) إلى المشركين الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، فهم الذين (أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا) أي حبسوا أنفسهم ومنعوها من الإيمان، فأسلموها للعذابِ بسببِِ كفرهم وما جنَتْ أيديهم، فالباء للسببية، وما مصدرية، والحميم في قوله (لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ) الماء المغلي، شرابهم حارٌّ مغلي، يُقطع أمعاءَهم، ويزيدُهم عطشًا ولهفةً، ولهم عذاب في النار قاسٍ مؤلمٌ، بسبب كفرهم.
[1]) النساء: 140.
[2]) مسلم: 1211.
[3]) ق: 45.
[4]) التكوير: 14.
[5]) المائدة: 36.