المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (332)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (332)
[سورة الأنعام:83-90](وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ)(83)
الإشارة في قوله (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا)([1]) إلى ما تقدم من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ابتداء من قوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا).
(آتَيْنَاهَا) أي تلك الحجة آتيناها وأرشدْنا إليها إبراهيم عليه السلام، وألهمناه إياها([2])، وأسندت الحجة في قوله (آتَيْنَاهَا) إلى الله تشريفًا وتنويهًا بشأنها وقوله (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) أي اصطفى الله إبراهيم عليه السلام ليقيم الحجة على قومه بالتوحيد، وهذا الاختيار هو من الفضائل، التي يخص الله بها من يشاء، فيرفع بها درجاتهم.
(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) جميع أفعاله وما يكون منه، في اختصاص من يشاء بفضائله، وتفاوت الناس فيها، هو على مقتضى علمه المحيط، وعلى وفق الحكمة البالغة، التي هي الإتقان، ووضع الشيء في موضعه.
(وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ)(84)
جملة (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) عطف على قوله (آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) أي آتَيْنَا إبراهيم عليه السلام الحجّة على قومه، ووهبنا له إسحاق، ووهبنا له يعقوب -وهو ابن إسحاق- حفيده، وخصّ إسحاق بالذكر لأنه وُهب له في كبره وكبر زوجه، فكان الوهب معجزة في غاية الغرابة، وذُكر يعقوب لإبقاء النبوّة في ذريته، فإن أكثرَ من سيذكر بعدُ مِن الأنبياء – وهم الأسباط من بني إسرائيل – ذرية يعقوب (كُلًّا هَدَيْنَا) كل واحد منهما هديناه، فالتنوين في (كلًّا) عوض عن الإضافة، والعائد في (هَدَيْنَا) محذوف للعلم به، ونوحا هديناه من قبلهم، فـ(قَبلُ) بُنيت على الضم؛ لأنها على نية الإضافة.
والضمير في (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) يعود إلى نوح لا إلى إبراهيم عليهما السلام؛ لأن نوحًا أقرب مذكور، ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم عليهم السلام، إلا أن يجعل (وَيُونُسَ وَلُوطًا) من عطف الجمل على (وَنُوحًا)، بتقدير: ونوحا هدينا ويونس ولوطا هدينا (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي مِن ذرية إبراهيم دَاوُدَ وابنه سليمان، وكلاهما أرسل لبني إسرائيل، وأيوب ويوسف بن يعقوب وموسى بن عمران وهارون أخاه والإشارة في قوله (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعود إلى الجزاء، وهو غير مذكور، لكنه يفهم من السياق، أي: ومثل ذلك الجزاء الحسن الذي نجزي به المحسنين نجزيهم.
(وَزَكَرِيَّا وَيَحۡيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلۡيَاسَۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ)(85-86)
(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ) كل واحد منهم شهد له الله تعالى بالصلاح، فالتنوين في قوله (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) عوض عن الإضافة كالأول، أي كل واحد ذكر، هو من الصالحين، وإسماعيل هو ابن إبراهيم، الذي ينحدر من نسله العربُ، واليسع اسم عجمي، دخلت عليه الألف واللام على غير قياس، لعلها علامة على تعريبه.
ويونس هو ابن مَتّا، ومتَّا أمُّه، وتكتب بالألف، أُرسلَ إلى أهلِ نَينَوى في المَوصل بلاد الآشوريين، دعا على قومِه فلمْ يُستجَب له، فخرج مغضبًا وركب البحر، فعلا عليهم البحرُ وثقُلت بهم السفينة، واقترعوا لإلقاء أحدهم في البحر، فخرجت القرعة على نبي الله يونس عليه السلام، فكانت مشيئة الله أن التقمه الحوت حتى لا يغرق، وقال في بطن الحوت خائفًا متذللًا متضرعًا لربه: ﴿لَّاۤ إِلَٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِینَ﴾([3])، فذلك قوله تعالى: ﴿وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّاۤ إِلَٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِینَ﴾([4])، فلفَظَهُ الحوت إلى الشاطئِ، فآمنَ قومُه جميعًا، قال تعالى: ﴿فَءَامَنُوا۟ فَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِینࣲ﴾([5]).
(وَلُوطًا) هو ابن أخِ إبراهيم، وكان معه في كفالته (وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) وكل واحد منهم فضلناه على سائر الخلق غير الأنبياء بالنبوة.
(وَمِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡ وَإِخۡوَٰنِهِمۡۖ وَٱجۡتَبَيۡنَٰهُمۡ وَهَدَيۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَلَوۡ أَشۡرَكُواْ لَحَبِطَ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ)(87-88)
من تعديد النعم على إبراهيم عليه السلام التذكير بشرف فروعه وأصوله، والثناء عليهم جميعًا بالهداية، فإنّ المدح بالأصل والفرع لا يعدُّ نعمةً ما لم يكونوا مهتدين، كما قال تعالى: ﴿ذُرِّیَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضࣲۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ﴾([6])، وجيء بـ(مِن) في قوله (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) التي تفيد التبعيض لأن من آباء مَن ذُكرَ مِن الأنبياءِ ومن الذريّة والإخوان مَن لم يكنْ نبيًّا ولا مهديًّا، فقوله (وَمِنْ آبَائِهِمْ) كآدم وإدريس، ومِن ذرياتهم كأنبياء بني إسرائيل، ومن إخوانهم كإخوة يوسف والأسباط وقوله (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ) عطف على فضلناهم على العالمين أي فضلناهم واصطفيناهم، (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هداهم الله للتوحيد، واصطفاهم للرسالة.
والإشارة في قوله (ذَلِكَ هُدَى اللهِ) إلى الهدَى المتكرر من الله لأنبيائه في الآية، وهو هُدَى اللهِ مضاف إليه، ليس فوقه هدى، اصطفى به للرسالة واختار من عباده مَن علم أنه يصلحُ لها، ويتحمل أعباءها ﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَیۡثُ یَجۡعَلُ رِسَالَتَهُ﴾([7]) ورسالتهم جميعا تتفق على التوحيد (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وهذا غاية في الترهيب من الشرك، فإنه ليس في أمره تسامح مع أحد، يحبط الله عمل صاحبه ويبطله، أيًّا كانت منزلته.
(أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَۚ فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ)(89)
الإشارة بـ (أُولَئِكَ) إلى من ذكر من الأنبياء، أي: أولئك من ذكر من الرسل آتيناهم الكتاب والحكمة، وأنزلنا عليهم الوحي كما أنزلنا عليك وآتيناك، فإن يكفر أهل مكة بما جئت به من الكتاب والحكمة، فقد وفقنا لقبول ما جئت به قومًا نبذوا الشرك وتبرؤوا منه، وآمنوا بك وبالأنبياء قبلك، وهم السابقون من المهاجرين والأنصار، أو: فقد وكلنا واستحفظنا الرسالة التي أتيت بها مَن ذكر مِن الأنبياء، فإنهم كلفوا بما كلفت به، ووفوا كما وفيت، فـ(الْكِتَابَ) في (آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) للجنس، فيشمل كل كتاب أنزله الله على الأنبياء، من ذلك التوراة، وصحف إبراهيم وموسى، وزبور دَاوُدَ، والإنجيل، والقرآن، وقوله (وَالْحُكْمَ) أي آتيناهم الحكمة، وهي ما صدر منهم من قول وعمل على الحق والصواب (وَالنُّبُوَّةَ) الرسالة.
والضمير في قوله (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا) عائد إلى ما أوتوه من الكتَاب والحكمة والرسالة، والإشارة بهؤلاء إلى كفار مكة.
(أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰلَمِينَ)(90)
الإشارة بـ(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) إلى الأنبياء، للإشادة بهم، وتأكيد امتنان الله عليهم بالهداية، ووصْفِهم بها (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) أُمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالاقتداء بهديهم، الذي هداهم الله إليه، وهو الاقتداء بهم فيما اجتمعوا عليه في أصل الدين والتوحيد، وفي الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة، وهو الذي يصلح أن يضاف إليهم جميعًا، كما قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِۦۤ إِبۡرَٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤ أَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِیهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِینَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَیۡهِ﴾([8])، وليس المعني به الاقتداء بِكل ما جاء في شرائعهم من جزئيات الأحكام التفصيلية؛ لأنها مختلفة باختلاف شرائعهم، قال تعالى: ﴿لِكُلࣲّ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةࣰ وَمِنۡهَاجࣰا﴾([9]).
فالاقتداء بجميعهم فيها غير ممكن، والاقتداء ببعضها يدخل في مسألةٍ تُعرف عند الأصوليين بشرع من قبلنا؛ هل هو شرع لنا، أم لا؟ والصحيح أنه يكون شرعا لنا إن ورد ذكره في شريعتنا، على وجه الامتنان والترغيب فيه، أو إقراره، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ)([10])، في قضية الرُّبَيِّع بنت معوِّذ، يشير إلى القصاص في الأطراف في قوله تعالى: ﴿وَكَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیهَاۤ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَیۡنَ بِٱلۡعَیۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصࣱۚ﴾([11]).
والخطاب في قوله (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) للنبي صلى الله عليه وسلم، أُمر أن يقول لقومه: لا أسألكم عن تبليغ هذا الدين أجرًا، فليس لي من ورائه كسبٌ لنفسي، إن هو إلا النصح لكم، والحرص على نجاتكم (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) ما هو إلّا التبليغ بالدِّين، والتذكير بالقرآن وبما ينفع الناس؛ لإحياء القلوب والهداية، ليعم الخير كافة الخلق.
[1]) و(تلك حجتنا) مبتدأ وخبر وتأنيث المبتدأ لتأنيث الخبر وهو حجتنا، و(على قومه) متعلق بحجتنا.
[2]) وجملة آتيناها حالية.
[3]) الأنبياء: 87.
[4]) الأنبياء: 87.
[5]) الصافات: 148.
[6]) آل عمران: 34.
[7]) الأنعام: 124.
[8]) الشورى: 13.
[9]) المائدة: 48.
[10]) البخاري:4611، ومسلم:1675.
[11]) المائدة: 45.