المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (333)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (333)
[سورة الأنعام:91-93]ﵟوَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَﵞ
أي: ما عرفوا لله قدرهُ، ولا عظموه في نفوسهم حقَّ تعظيمِهِ، فما علمُوا مقتضى كمالِ صفاته في واسع رحمتهِ، بإرسالِ الرسل وإنزالِ الوحي وهداية الخلق، وما قدروه حق قدره حين أشركوا به وكذبوا رسله، و(قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) فجحدوا الإسلام، الذي هو أعظم نعمه، وأنكروا الوحي والنبوءة، وقالوا ما أنزل الله من شيء على أنبيائه، فغفلوا عن بأسه وانتقامه وشديد عذابه.
وأصل القدر معرفة المقدار بالسير، ثم توسعوا فيه إلى معرفة الشيء على أكمل وجوهه، ومنه قولهم: رحم الله امرَأً عرف قَدْرَه، وقوله (مِنْ شَيْءٍ) نكرة في سياق النفي، تفيد عموم إنكارهم لجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله، وتأكد العموم بحرف الجر، الدال على الاستغراق، قالوا ذلك نفورًا ومبالغة في إنكار القرآن، كما إذا قيل: فلان يعرف النحو، فيقال: هو لا يعرف شيئًا، مع أنه لا بد أن يكون يعرف شيئًا، فتعميمهم للنفي في الآية من هذا القبيل، وإلا فالكفرة في الحقيقة يعترفون بأن التوراة أنزلها الله على موسى n.
وردَّ الله عليهم بقوله (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ) (ال) في الكتَاب للعهد، وهو التوراة، والمعنى: قل لليهود ولكل من يقول ما أنزل الله من شيء مِن التوراة، التي جاء بها موسى لبني إسرائيل، حالة كونها (نُورًا) حقا أبلج واضحا وجعلها مصدر هداية (لِلنَّاسِ) وهم المخاطبون بشريعة التوراة من بني إسرائيل.
والخطاب في (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ) لليهود؛ لأنهم هم الذين يجعلون التوراة قراطيس، والقراطيس جمع قرطاس، وهو ما يكتب عليه من ورق ونحوه، جزَّؤُوا التوراة في أوراق مفرَّقة، بحيث يسهل عليهم التلاعب بها، فما وافق منها هواهم أخرجوه، وما لم يوافق أخفَوْه، وأنكروا أن يكون منها، وهو من التحريف الذي عُرفوا به و(تُبْدُونَهَا) تُظهرون ما تريدون إظهارَهُ (وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) فالكثير هو الذي يخفونه؛ لأنه لا يوافق أهواءهم، كآية الرجم، وصفة النبي ﷺ.
(وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ) علمكم الله بإرسال محمد ﷺ إليكم بالوحي ما لم تكونوا تعلَمونه أنتم، ولم يعلمه آبَاؤُكُم من قبل، فقد بين لكم النبي ﷺ ما اختلفتم فيه واحتجتم إليه، مما التبس عليكم وقوله (قُلِ اللهُ) جواب السؤال في قوله: مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسي n؟ فأجابهم الله بقوله (اللهُ) والتقدير: الله أنزله، أو أنزله الله، والسؤال والجواب لتبكيتهم وإفحامهم؛ لأنه لا جوابَ لهم سواه.
وبعدَ أنْ ألزَمْتهم بالحجةِ ذَرْهم لا تُبالِ بهم، دعهم في خوضهم وباطلهم يلعبونَ، فهم غير جادين في طلب الحقّ، يخوضون ويلعبون، والخوض: الكلام بالباطل، واللعب والخوض أخَوانِ، وتقدم معنى الخوض واللعب في قوله (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)([1]) وقوله (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) في هذه السورة([2]).
[الأنعام: 92، وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ]
ﵟوَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَﵞ
جملة (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ)([3]) عطف على الجملة المقدرة، بعد قوله (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى) أي الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهذا كتاب أنزلناه، وهو القرآن، أنزله الله على محمد ﷺ، وقوله (مُبَارَكٌ) مِن البركة، وهي كثرة الخير في الشيء ونفعه، فالقرآنُ مباركٌ، كثيرُ النفع كثيرُ الخير، ولكثرةِ خيره وردَ في الحديث: (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا)([4]).
ومباركٌ أيضا في أنه يدل قارئه على الخير ويهديه إليه، ومبارك في ألفاظه، وما فيها من حلاوة وطلاوة، وما في معانيه الغزيرة من نور وهداية ومصدق لما بين يديه من الكتب التي سبقته، كالتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب والصحف، وتصديقه لها أن الخبر الذي جاء فيه موافق لما جاء في تلك الكتب من التوحيد وأصول الدين مطابق لها.
وجملة (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) عطف على فعل محذوف، تقديره: وأنزلنا إليك الكتاب مصدقًا للكتب التي سبقته، وأنزلناه لتنذر به أم القرى ومَن حولها، وأم القرى: مكة، وإنذارها إنذار أهلها وهم المشركون، فهو مجاز عقلي، كما في: واسأل القرية، وأمُّ الشيء أصله ومرجعه، كما أنّ الأم من النساء أصلٌ لولدها، وسميت مكة أم القرى؛ لأنها قِبلتهم ومكان حجهم، ولأنها أول قرية تقرّتْ، فكل من حولها كانوا أهل خيام يرجعون إليها.
والنِّذارة: الإخبار بما يُخاف ويُحذر منه، خلاف البِشارة، واقتصر على التخويف والنِّذارة دون البِشارة لأن الخطاب للمشركين في مكة، وما حولها من القبائل، التي كانت على عداوة شديدة للنبي ﷺ، وخصُّوا بالذكر لأنهم أحق من غيرهم بالإنذار، كما في قوله: ﴿وَأَنذِرۡ عَشِیرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِینَ﴾([5]).
وقوله (وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) هم من كانوا في مكة من المسلمين، الذين وصفهم الله تعالى بقوله (يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ويؤمنون بالقرآن وبالنبي ﷺ (وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ).
فالتخويف والنِّذارة في قوله (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) لا تشملهم بل خاصة بالمشركين، فالضمير في قوله (يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعود على القرآن، أو النبي ﷺ.
وذكِروا بالصلاة؛ لأنها هي التي كانت قد شرعت من أركان الإسلام في مكة، أما باقي الأركان كالصيام والزكاة والحج فكلّها شرعت بالمدينة، ولأنها شعار الإسلام، فمَن رؤي يصلي يحكمُ بإسلامه.
[1]) ص: 91.
[2]) ص: 132.
[3]) هذا مبتدأ، وكتاب بدل، وأنزلناه في موضع الحال، ومبارك خبر، ومصدق خبر ثانٍ.
[4]) أبو داود: 1464.
[5]) الشعراء: 214.