طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (334)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (334)

[سورة الأنعام:94-95]

(وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ)(94)

انتقال من الكلام على حال المعتبرين في قوله (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ) إلى الكلام عن حال الظالمين أنفسِهم، حين يأتون فرادى، ويواجهون مصيرهم، وضمير العظمة في (جِئْتُمُونَا) يعود على اسم الجلالة في قوله (بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)، وفرادى حالٌ، جمع فَردان، كسُكارى وسَكران، بمعنى جئتمونا حالَ كونكم منفردين، ليس مع أحد منكم شافع ولا ناصر ولا تَرجُمان، والكاف في (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ) للتشبيه بمعنى مثل، في موضع الحال ([1])،أي مثل خلقكم أول مرة جئتمونا منفردين عند خروجكم من قبوركم، و(خولناكم) من الخول، وهم الخدم وعبيد الخدمة، والخول هنا ما تفضل الله به عليهم من الأموال وأصناف المتاع، وتركُه وراء الظهر أبلغ في التيئيس منه؛ لأن ما ترك إلى جهة الوراء فكلما انتقل عنه ازداد بُعدًا، وفات تداركه، والمعنى: إن ما خُولتموه وأعطيتموه من متاع الدنيا على كثرته لم تقدّموا منه لأنفسكم شيئا تجدونه أمامَكم ينفعكم، ولو قدموا لم ينفعهم؛ لعدم إيمانهم، وكذلك لم يصحبكم منه شيء ينفعكم، فقدِمْتم مفلسينَ، خاوِي الوِفاض، وشفعاءكم يعني الأصنام؛ لأنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

و(زَعَمْتُمْ) من الزعم، بمعنى الكذب والباطل، و(فِيكُمْ) على حذف مضاف، أي: وزعمتم في عبوديتكم لها أنها تشارك الله في ذلك، أي: زعمتم أن الأصنام تشارك الله في عبوديتكم، أو في استعباد الله إياكم، وقوله (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ) أي ما نرى معكم الآلهة التي كنتم تعبدونها، وتقولون إنها ستشفع لنا.

وهذا تهكّم من حالهم حين يقدمون في القيامة، فكأنَّ مَن يقدمون عليه هو في ترقب أن يكونوا مصحوبين بآلهتهم التي تشفع لهم؛ لتمنع العذاب عنهم، فيقال لهم: أين الشفعاء، ما نراهم الآن معكم؟ وذلك لتزداد حسرتهم، وبَين في (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) على قراءة النصب تكون ظرفَ مكان، وفاعل تقطع محذوف، والتقدير: تقطع الأمر والحبل بينكم وبين من كنتم تعبدونهم وترجون شفاعتهم

وعلى قراءة الرفع يكونُ البينُ مصدرًا، بمعنى القرب والوصل، ويكون هو الفاعل، بمعنى تقطع وصلُكم؛ لأنّ البيْنَ مِن الأضدادِ، يطلق على البعد وعلى القرب والوصل، والمعنى: انقطعت الصِّلة بينكم وبين ما كنتم تعبدونه وترجون شفاعته كما انقطعت الصلة بينكم وبين خلانكم ورؤسائكم وعشائركم، التي كُنتُم تتآزرون بها على باطلكم وظلمكم، ذهبت ولم تجدوا منها شيئًا، فكل واحدٍ أتَى منفردًا (وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، أي فما كُنتُم تدعونه من الباطل في أنّ الآلهة تشفع لكم، بطلَ وذهبَ، أو أن الآلهة لم تعرف طريقها إليكم، وضلتِ الطريق، فلم تهتد إلى مكانكم، فـ(ضَلَّ) تكون بمعنى ذهبَ وبطلَ، وبمعنى احتارَ ولم يهتدِ، و(مَا) في (مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) موصولة واقعة على الأصنام، أو نكرة موصوفة.

(إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ)(95)

بعد ذكر عاقبة السوء، التي ينتهي إليها أهلُ الكفر عند نزعِ أرواحهم، وكذلك ما يلاقونه من الشدائد، عندما يساقون من المحشر إلى النار، رجع الكلام إلى إقامة الحجج على وحدانية الله، وأنه الخالق المدبر، فالقُ الإصباح، الذي بيده الأمرُ كله، فهو المستحقُّ وحدَه للعبادة، فقال (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) الفَلْق: الصدع والشقّ، الذي يصحب بداية الحياة في الحَبِّ، كحَبِّ القمح والسمسمِ والزراريع، والنَّوى: ما في جوف الثمار من اللُّب، كالتمر والزيتون والبطيخ، الذي يتحول إلى حيٍّ، عود أخضر يربو وينمو ويثمر، تحوّلاً ناشئا عن فلق النوى وشقّها، الذي لا فاعل له في الحقيقة إلا الله: قال تعالى: ﴿وَتَرَى ‌ٱلۡأَرۡضَ ‌هَامِدَةࣰ فَإِذَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡهَا ٱلۡمَاۤءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِیجࣲ﴾([2]) ﴿إِنَّ ٱلَّذِیۤ ‌أَحۡیَاهَا لَمُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۤۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ﴾([3]).

وقوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) خبرٌ ثانٍ لـ(إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)، فالله تعالى فالق الحبّ، وهو الذي يخرج الحيّ من الميت، وإخراج الحي من الميت أعمُّ من فلق الحبِّ والنوى؛ لأنه يشمل تشقق الحب الميت لتخرج منه حياة جديدة، ويشمل غيره، كخروج الولد مِن ماءٍ مهين، وخروجِ الحيوان من النطفة، والفرخ من البيضة.

وقوله (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) عطف على (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) من عطف الاسم المشتق على الفعل، وهو جائز كعكسه، كما في قوله: ﴿أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ ‌إِلَى ‌ٱلطَّیۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَٰۤفَّٰتࣲ وَیَقۡبِضۡنَۚ﴾([4])، والجملة الأولى (يُخْرِجُ الْحَيَّ) فعلية، يدل المضارع فيها على التجدد والاستمرار، والثانية اسمية، تدل على الثبات والدوام، وخروج الميت من الحي كخروج المسك واللبن والبيض من الحيوان، وهذا الخروج ضد الخروج الأول، ولا يقدر على جمع الضدَّينِ إلا الخالق المبدع.

وقوله (ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي ذلكم القادر على هذه الأفعال العظيمة؛ إخراج الحي من الميت والميت من الحي، وعلى غيرها، هو الله وحده، فكيف تصرفون عن هذا الحق الذي ترونه في صنع الله.

فالاستفهام في قوله (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) للتعجيب من حالهم، وتؤفكون: تصرفون، مِن أفكَ كضربَ، بمعنى صرفَ، فكيف تُصرفُون عن الحق إلى الباطل، والصوارف عن الحق كثيرة، منها الوسوسة والنفس والهوى، ولذلك بُني الفعل لما لم يُسمّ فاعله في (تُؤْفَكُونَ).

 

[1])         كالحال الأولى (فُرَادَى) من ضمير الفاعل في جئتمونا، وتسمى الحال َالمتداخلة، قرنت مع الأولى دون حرف عطف، أي: جئتمونا منفردين، على الهيئة التي خلقناكم حين ولدتم في الانفراد، أو كاف التشبيه حال من الضمير في فرادى، بتأويل منفردين، أي: جئتمونا منفردين، مشبهين الحالة التي ولدتم عليها، بُهْما غُرْلًا.

[2])    الحج: 5.

[3])    فصلت: 39.

[4])    الملك: 19.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق