المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (336)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (336)
[سورة الأنعام:100-107](وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتِۭ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ)([1])(100).
هذا لون آخر من ألوان كفر المشركين، غير عبادة الأصنام، وهو عبادة الجنّ، والجن في قوله: (وَجَعَلُوا لِلهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) الشياطين، عبدوهم كما عبدوا الملائكة، وجعلوهم شركاء لله، واعتقدوا أن الشياطين تخبر الكهان بالغيب.
وكما عبدوا الجن والشياطين عبدوا الملائكة، عبدوهم مع الأوثان، وإلى ذلك الإشارة في قوله: ﴿ثُمَّ یَقُولُ لِلۡمَلَٰۤئِكَةِ أَهَٰۤؤُلَاۤءِ إِیَّاكُمۡ كَانُوا۟ یَعۡبُدُونَ﴾([2])، وجعل المشركون الملائكة بنات الله.
وجعلوا من ذلك صلة لله بالجن، فالملائكة عندهم بنات الله من أمهاتِ شريفاتِ الجنّ، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلُوا۟ بَیۡنَهُۥ وَبَیۡنَ ٱلۡجِنَّةِ نَسَبࣰا﴾([3]).
وجملة (وَخَلَقَهُمْ) حالية، بتقدير: وقد خلقهم، والضمير في خلقهم عائد على المشركين، ويصح عوده على الجن، وهي مخلوقة، أي أشركوا بالله والحال أنهم هم ومن عبدوهم مخلوقون لله، وهذا غاية الاستغراب والتعجيب.
وقوله (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ) أي افتروا على الله الكذب فقد اختلقوا لله بنين وبنات بغير علم، فجعل المشركون الملائكة بنات الله، وجعل اليهود عُزير ابنَ الله، والخرق أصله القطع، فافتراؤهم خرق وقطع لكن على وجه الإفساد، ضد الخلق، الذي أصله قطع الشيء بمقادير للإصلاح، وجملة (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في موضع الحال، والباء للملابسة، فجعلهم لله شركاء كان خرقا وافتراء مصحوبا بجهل وعدم معرفة بما يقترفون.
(سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) سبحانه مصدر نائب عن فعله، أسبِّح الله سبحانا تقديسا له وتنزيها وعلوًّا وإجلالًا عمّا يقول الجاهلونَ، ويصفه المبطلون.
(بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ)(101)
بديعُ خبر مبتدأ محذوف، أي هو بديع السماوات والأرض، مبدعهما ومنشئهما على غير مثال سابق، وبديع على وزن فعيل بمعنى فاعل، للمبالغة في الاتصاف بالخلق والإبداع([4]).
والإبداع الاختراع دفعة على غير مثال سابق، فالسموات والأرض وما فيهما لم يكن لها قبل خلقها شبيه ولا مثيل.
والاستفهام في (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) بمعنى: من أين وكيف؟ للاستبعاد والتعجيب كيف يكون له الولد؟ وكل من في السماوات والأرض مخلوق له، والصاحبة الزوجة؛ لصحبتها للزوج في أغلب أوقاته.
وانتفاء الصاحبة عن الله لأن الزوجة تتخذ للحاجة، والله تعالى غني عن الحاجة، ومَن خلقَ السماوات والأرض وما فيهما لا يكون محتاجًا، وبانتفاء الصاحبة يتأكد انتفاء الولد؛ لأنه يكون منها، وقوله (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي كل شيء في الكون سواه مخلوق له، وعلمه محيط به، ودخل في ذلك ما كانوا يعبدونه من الجن والملائكة والكواكب ونحوه، ففي وصف كل شيء بأنه مخلوق لله إبطالٌ لكلّ ما كانوا يجعلونه آلهة.
(ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ فَٱعۡبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ)(102)
الإشارة في (ذَلِكُمُ) تعود إلى الله المتصف بالأوصاف السابقة من الإبداع والخلق والإحاطة بعلم كل شيء، وقوله (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وصفان للفظ الجلالة في قوله (اللَّهُ رَبُّكُمْ).
وقوله (فَاعْبُدُوهُ) تفريع عن اتصاف الله بهذه الأوصاف، فالله المتصف والمتفرد بالربوبية والوحدانية هو من أمرتم بعبادته، والمستحق وحده لها، وقد كان المشركون في أكثر أوقاتهم يلتجؤون إلى أصنامهم، يستغيثون بها، وإذا عبدوا الله أو دعوه عند الاضطرار لا يعبدونه إلا وهم مشركون، يعتقدون أن الأصنام تقربهم إلى الله، ومَن أشركَ بالله لم يعبده، فإنه أغنى الأغنياءِ عن الشرك، والوكيل الحافظ والرقيب، فالله هو الحفيظ على كل شيء وهو المتولي حفظهم، فكانَ عليهم أن يعبدوه شكرًا وعرفانًا.
(لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ)(103)
من كمالات الله أنه المحيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء، والإدراك في قوله (لا تدركه) هو الشعور والمعرفة المتوصل إليها بإحدى الحواس، والأبصار جمع بصر، الحاسة التي بحدقة العين تميز المرئيات (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) الله تبارك وتعالى يبصر ببصر يليق به، ليس بجارحة، ولا يشبه ما يعرفه الناس ﴿لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ﴾([5])، وقوله (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) أي لا تطيق رؤيته الأبصار، فالله تعالى لعظمته لا يُرى في الدنيا كما ترى أصنامهم، قال مالك رحمه الله: “لم يُر الله في الدنيا؛ لأنه باقٍ، ولا يُرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورُزقوا أبصارًا باقيةً، رُئي الباقي بالباقي”([6]).
وأهل السنة متفقون على رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، مع اتفاقهم على أنها تخالف الرؤية المتعارفة، فلا تستدعي جهةً ولا مكانًا، قال مالك: “لو لمْ يَر الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيَّرِ الْكُفَّارُ باحتجابهم عنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَلَّاۤ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ یَوۡمَئِذࣲ لَّمَحۡجُوبُونَ﴾”([7]).
وإدراك الله الأبصار إحاطته بها، فقوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) من باب المقابلة والمشاكلة لقوله (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ).
واللطيف يكون صفةً مشبهةً من لطُف على وزن فعُل، الدال على السجايا، فهو سبحانه للطفه لا تدركه الحواس، ولا ينطبعُ فيها، ويكون وصف الخبير بعده بمعنى العليم، متممًا لمعنى قوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) ويصح أن يكون اللطيف صيغة مبالغة من لطفَ، بمعنى رفق وتفضل، ومنه قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُ لَطِیفُۢ بِعِبَادِهِ﴾([8])، وقوله: ﴿إِنَّ رَبِّی لَطِیفࣱ لِّمَا یَشَاۤءُ﴾([9]).
(قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ)(104)
قل لهم يا محمد: قد جاءكم بصائر من ربكم، أي: قد جاءكم ما يكفيكم من الأدلة العقلية، التي تبصركم بالحق
(فَمَنْ أَبْصَرَ) الحق وأعمل عقله وانتفع (فَلِنَفْسِهِ) أبصر، وسيحمد عاقبة تبصره (وَمَنْ عَمِيَ) قلبه ولم يتبصر (فَعَلَيْهَا) أي فعماه وضلاله عن الحق يرجع على نفسه، فالبصائر جمع بصيرة، وهي في المعقولات مثل الأبصار للبصر في المحسوسات.
(وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) قل لهم: لست عليكم حارسا ولا متوليا حفظكم؛ فلا يرجع إليَّ نفعُكم، ولا يضرني عنادُكم، ولا أنا قادر على هدايتكم، ما عليَّ إلّا البلاغُ، وقد بلّغتُكم.
(وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسۡتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ)(105)
أي ومثل التصريف والتنويع للحجج في الرد على المكذبينَ، نُنوّع ونصرّف الآيات لأهل مكةَ؛ ولكن بعد هذا التصريف والتنويع للحجج، كانت عاقبة الأمر على غير ما ينتظر منهم، فكانت عاقبة أمرهم الإمعان في الجحود والإنكار والاستهزاء بالآيات، ويقولوا (دَرَسْتَ) أي هذا الذي أتيت به ليس وحيًا ولا نبوةً، وإنما أنت درستَ ما جئت به عن أهل الكتاب، يقولون ذلك وهم يعلمون أمّيته بينهم، وأنّه لم يقرأ كتابًا ولم يخطه بيمينه، ولكن قالوه مكابرةً، أو المعنى ليقولوا إنّ ما جئت به قد درَسَ، أي قدمَ وعفا عنه الزمن، ما هو إلا أساطير الأولين.
فتصريف الآيات: تنويع الحجج الدالة على الوحدانية بأساليب متعددة، واللام في (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) للعاقبة.
(وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي أن تصريف الآيات وتنويعها لأجل أن يتم البيان على أكمل وجه، فينتفع بذلك قوم يعلمون، ولا يبقى عذر لمكذب، ولا غموض لمتحير.
(ٱتَّبِعۡ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ)(106)
داوم على اتباع ما أوحي إليك من القرآن، أو الزم ما أمرت به من مواصلة دعوة المشركين إلى الإيمان وجملة (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) حال مؤكدة لما أوحي إليه من الكتاب (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أعرض عن المستهزئين المتكبرين، ولا تبال بغرورهم وأذاهم وفحش ألسنتهم وسفيه أقوالهم، لا تبال بهم، فسيكفيكهم الله، وينتقم منهم.
(وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكُواْۗ وَمَا جَعَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗاۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِوَكِيلٖ)(107)
(وَلَوْ شَاءَ اللهُ) إيمانهم وهدايتهم (مَا أَشْرَكُوا) فإنه لم يرد هداية أهل العناد المتمادين منهم على الكفر، وما يريده الله سبحانه وتعالى واقع لا محالة فعدم هدايتهم استحقوه بسبب استكبارهم واختيارهم التمرد والعصيان.
(وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) لست مسيطرا ولا متحكّما فيهم، ولا وكيلا عن أعمالهم، فعملهم نفعه لهم، وتبعاته عليهم، إنما أنت نذير، والله على كل شيء وكيل.
[1]) (شركاء) مفعول ثانٍ لجعلوا ومحل المفعول الثاني التأخير، وقُدم لاستعظام نسبة الشريك إلى الله وهي موضع الإنكار، ويصح أن يكون (الجن) هو المفعول الثاني، أو بدلا من (شركاء) على أن (لِلهِ) ظرف مستقر في محل المفعول الثاني أي وجعلوا صلة لله شركاء، ويصح أيضا أن تكون الجن مفعولا لفعل مقدر، أي: جعلوا الجن، أو خبرا لمبتدأ محذوف على قراءة الرفع، كأن سائلا لما سمع قوله (وجعلوا لله شركاء) قال: من هم؟ قيل: هم الجن.
[2]) سبأ: 40.
[3]) الصافات: 158.
[4]) مجيء فعيل بمعنى فاعل من الثلاثي للمبالغة قياسي، كعليم وقدير بمعنى عالم وقادر، ومنه أليم ووجيع، على حد قول عنترة بن شداد: (وخيل قد دلفت لها بخيل *** تحية بينهم ضرب وجيع) وإن كان من الرباعي أبدع فمجيئه بمعنى اسم الفاعل مبدع سماعي، وليس بقياس، ومنه بشير ونذير.
[5]) الشورى: 11.
[6]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى:1/199، 200.
[7]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 3/468.
[8]) الشورى: 19.
[9]) يوسف: 100.