المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (338)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (338)
[سورة الأنعام:111-113]
(وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ كُلَّ شَيۡءٖ قُبُلٗا مَّا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَجۡهَلُونَ)(111)
قوله (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) هو في الرد على المستهزئين، الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم؛ لئن جاءتهم آية من خوارق العادات التي اقترحوها ليؤمنن بالقرآن، فقال الله ردًّا عليهم إنهم في كل حال لا يؤمنون، ولو أننا نزلنا عليهم الملائكة، وبعثنا لهم الموتَى فكلموهم، وحشرنا وجمعنا لهم كلَّ ما طلبوه من الخوارقِ فرأوه رأي العين قُبلًا؛ ما كانوا ليؤمنوا.
وجاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في سببِ نزولِ الآية تسميةُ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وأنهم الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِي بْن وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدُ بْنَ الْمُطَّلِبِ، وَالْحَارِثُ بْنَ حَنْظَلَةَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وأنهم أَتَوْا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا: “أَرِنَا الْمَلَائِكَةَ يَشْهَدُونَ لَكَ، أَوِ ابْعَثْ لَنَا بَعْضَ مَوْتَانَا فَنَسْأَلْهُمْ أَحَقٌّ مَا تَقُولُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: لَا نُؤْمِنُ لَكَ حَتَّى يُحْشَرَ قُصَيٌّ فَيُخْبِرُنَا بِصِدْقِكَ، أَوِ ائْتِنَا بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا – أَيْ كَفِيلًا – فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ”( ).
فطلبَ المشركون من النبيّ صلى الله عليه وسلم طلب استهزاء أن تنزل عليهم الملائكة، تشهدُ لهم بأنه صادق، أو أن يُحيي الله آباءهم، فيشهدون عندهم بصدق ما يخبرهم به من البعث والحساب، وهو معنى قوله (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى) فذكر الله ردًّا عليهم بأنهم كاذبون، وأنهم لا يؤمنون، حتى لو نزلت عليهم الملائكة أو كلّمهم الموتى.
وقوله (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا) أي لو اجتمع لهم وحشر إليهم وأُعطوا كل ما طلبوه من الخوارق، وجاءهم ما اقترحوه رأي العين، مُواجهًا لهم في قِبالتهم عِيانا جهارًا ما كانوا ليؤمنوا، فأصل الحشر الجمع في صعيد واحد، كما قال تعالى: ﴿فَأَرۡسَلَ فِرۡعَوۡنُ فِی ٱلۡمَدَاۤئِنِ حَٰشِرِینَ﴾( )، وقال ﴿وَحُشِرَ لِسُلَیۡمَٰنَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّیۡرِ فَهُمۡ یُوزَعُونَ﴾( )، وعدّي الفعل حشرنَا بـ(عَلَى) لتضمينه معنى البعث والإرسال.
وقوله (كُلَّ شَيْءٍ) أي بعثنا عليهم وجاءهم كل شيء مما طلبوه من الخوارق، فهو من العام الذي أريد به الخاص؛ لأن الشيء يطلق على كل موجود، و(قُبُلاً) أي جمعنا لهم ما أرادوه ورأوه رأي العين مقابلاً لهم، وقوله (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) نفي لإيمانهم على أبلغ وجه، يعم كل الأحوال والأزمنة، فهو أبلغ من قولك لا يؤمنون.
وقوله (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) استثناء من جميع الأحوال، ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال، إلا في حالة أن يشاء الله إيمانهم، أو إيمان بعضهم، فإنهم إذا شاءَ الله يؤمنون، وقد شاء الله أن يؤمن بعضُهم بفتح مكة، ودخول الناس في دينِ الله أفواجًا، ولكن أكثرهم لم يؤمنوا ولم يعقلوا الآيات، فكانوا من الجاهلين، وعن التذكرة معرضين.
(وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ)(112)
بعد أن ذكر الله ما يلاقيه النبي صلى الله عليه وسلم من تعنت المستهزئين والمكذبين، أردفه بأن ما يلاقيه منهم ليس خارجًا عن سنة الأنبياء قبله، فإنهم جميعًا أوذُوا وكُذبوا، وكان لهم أعداء شياطين من الإنس والجن؛ ليكون ذلك تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتًا له، فيتأسى بمَن قبله من الأنبياء، فالكاف في (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) للتشبيه بمعنى مثل، في محل النيابة عن المفعول المطلق لجعلنا، أي ومثل ذلك الجعل والعداوة التي وقعت من شياطين الإنس والجن للنبي صلى الله عليه وسلم، جعل اللهُ من أمثالهم أعداءً لمن قبله من الأنبياء، فقوله (لِكُلِّ نَبِيٍّ) في محلّ المفعول الثاني لجعلنا، قدِّم للاهتمام به؛ لأنه المقصود من التسلية، و(عَدُوًّا) مفعول أول، والشياطين جمع شيطان، تقدم الكلام عليه في الاستعاذة، وكل من الإنس والجن منهم شياطين ومنهم صالحون.
و(يُوحِي) من الوحي، وأصله الكلامُ الخفيُّ، وهو هنا وسوسة الشياطين، يوسوس ويوحي بها بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض، وبعض الجن إلى الإنس، وجملة (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) حالية، والزخرف من الزخرفة، وهي البهرجة والتزيين والتحسين للباطل، أو لبعض ما يظن أنه لا يَروجُ ولا يقبلُ عليه، فيزين إغراءً به، و(زُخْرُفَ الْقَوْلِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي القول المزخرف، و(غُرُورًا) مفعول لأجله، هذه الوسوسة والزخرفة في القول لأجل الخداع والغرور، لتردي صاحبها وتوبقه.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) أي هذا الذي وقع للأنبياء جميعا، هو بإرادة الله ومشيئته، للتمحيص والابتلاء، ولو شاء ربك عدم وقوعه ما وقع، فلا يقع في ملكه إلا ما يريد، (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) فأعرض عن مكرهم وافترائهم، وما طبعوا عليه من الكذب والاستهزاء، ولا تبال بهم، ولا يمنعك ما تلاقيه منهم عن المضي في دعوتك، وتبليغ رسالة ربك، فمن علم الله فيه خيرا هداه، وشرح صدره، فنصر به دينه، ورفع شأنه، ومن علم خبثه وفساد طوَيَّتِه سلبه التوفيق وخذله، فكان من الهالكين.
(وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفۡـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ)(113)
جملة (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) عطفٌ على المفعول لأجله (غرورًا) لأنه في قوةِ ليغروا، أي يوسوس لهم الشياطين ليغروهم، ولتصغى وتميل لوسوستهم أفئدة الذين لا يؤمنون، واللام في (وَلِتَصْغَى) لام كي، أي ولأجل أن تَصغى إلى الشياطين.
وتصغى من الصغْي والصغْوِ، فعله يائي صَغِي كرضيَ، وواوي صَغَى كدعا، ومعناه الميل، ومنه الحديث: (فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ)( )، ومعناه قبول قول الشياطين والميل إليهم واتباعهم.
و(الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) هم المشركون (وَلِيَقْتَرِفُوا) من الاقتراف، وهو اكتساب وارتكاب المآثم، واللام فيه لام الأمر، والأمر فيه للتهديد، كما في قوله: ﴿ٱعۡمَلُوا۟ مَا شِئۡتُمۡ إنه بما تعملون بصير﴾( )، أي ولِيَقْتَرِفُوا الإثم الذي يقترفونه، فإنهم سيندمون حين يرون العذاب، و(ما) في قوله (مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) موصولة، والعائد محذوف.