المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (339)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (339)
[سورة الأنعام:114-117](أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡتَغِي حَكَمٗا وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ مُفَصَّلٗاۚ وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٞ مِّن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ)(114)
هذا القول (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) للرد على المشركين، حين طلبوا علامةً تحكم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، يعلمون بها صدقه، وهي نزول الملائكة، أو أنْ تكلّمَهم الموتى، يحييها الله تعالى وتخبرهم بصدقه، أُمر الله نبيه أَن ينكرَ عليهم، ويقول لهم (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا).
فجملة (أَفَغَيْرَ اللَّهِ) على إضمار القول، أي: قل لهم: أفغير الله أطلب حكمًا يحكم بيننا، وهو الذي أنزل إليكم القرآن مفصلًا بالحجج والدلائل والبراهين، على صدق ما جاءكم به، وكذلك الذين آتيناهم الكتاب، رهبانهم وأحبارهم يعلمون صدقَ ما جاءكم، فأحبار أهل الكتاب يعلمونَ أن القرآن حق، وأنه من عند الله، ويعلمون أنه نزل مصاحباً ومتلبساً بالحق لا ينفك عنه، والذي دلهم على ذلك علمهم بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يقرأ كتابهم، ولا تعلمه من أحبارهم، فلما جاءهم القرآنُ بما هو مصدقٌ لما معهم، دلَّ على أن مصدر الكتابين واحدٌ، وهو الوحي، وأسند العلم بذلك إليهم جميعا في قوله (يَعْلَمُونَ)؛ لأن من لم يعلم كان متمكناً من العلم لو أراد، فهو يعلم بالقوة، فالهمزة في (أفغيرَ اللهِ) للاستفهام الإنكاريّ، والفاء للتفريعِ عن طلبهم التحاكم لنزولِ الآيات، و(غَيْرَ اللهِ) مفعول مقدم لأبتغي، قدّم لأنه المقصود بالإنكار، وأبتغي أطلب، و(حَكَمًا) حاكم يحكم بيننا، والفرق بين الحكم والحاكم أن الحَكم لا يكون إلا عدلا، ولا ينقض حكمه، بخلاف الحاكم، فقد يكون عدلا وقد لا يكون، ولذلك فمن أسماء الله الحكم، وليس من أسمائه الحاكم.
وجملة (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) حالية، والكتاب القرآن، والضمير في (إليكم) للمشركين الذين يبتغون معجزة غيره، وتعريف جزأي الجملة (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) يفيد الحصر، بمعنى أنه منزل من عند الله لا من عند غيره، و(مُفَصَّلًا) فيه تفصيل للبراهين والأدلة والأحكام، وتبيين للحجج الدالة على صدق الرسالة، وفيه فصل بين الحق والباطل.
وجملة (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) عطف على قوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) مؤكدة بأن القرآن من عند الله، والخطاب في قوله (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) لكل أحد غيرِ معين، والإمتراء الشك، فلا يحق لأحدٍ أنْ يمتري ويشك في القرآن؛ لظهور الأدلة على أنه مِن الله.
(وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ)(115)
جملة (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) عطف على قوله (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) وكلمةُ ربك هي القرآن، وتطلق أيضًا على أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده، وتمامها في قوله (وَتَمَّتْ) تحققها ووقوعها، كما في قوله: ﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰۤ إِبۡرَٰهِۦمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتࣲ فأتمهن﴾( )، وقوله: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَٰۤءِیلَ بِمَا صَبَرُوا۟﴾( )، أي: تحققَ لهم ما أرادُوا مِن الملك.
وقوله (صِدْقًا وَعَدْلًا) أي تحققتْ كلمتُه القرآن، ووصلت إلينا بالغةً الغاية فيما أتت به من أخبار ووعد ووعيد وأحكام، فهي غاية في العدل والصدق، و(صِدْقًا وَعَدْلًا) منصوبان على الحالِ، بتأويل صادقة عادلة، والعدل هو وضع الشيء في موضعِه، بإعطاء كلِّ ذي حقّ حقّه، والصدق في كلماته مطابقتُها للحقّ والواقعِ، في كلّ ما جاءتْ به مِن أخبار وأحكام، والعدل والصدق أخوان، فلا يقام عدل إلا بالصدق.
والتبديل في (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) التغيير والتحريف والمعارضة أو الإبطال، فالقرآن وكلمات الله كلُها؛ الكونية والتشريعية لا يمكن إبطالها ولا تخلفها، ولا يمكن تعقبها والنظر فيها للطعن أو التشكيك، فهي نافذة فاصلة.
(وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يدبرهُ الكائدون في الخفاء لهذا الدين، ولوسوسة الموسوسين من شياطين الإنس والجن، والعليم بعدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وبِما يقترفونه من آثام، وما يطعنون به في القرآن، فلا يُفلت أحد منهم ولا من غيرهم من عقابه.
(وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ)(116)
الخطاب في (وَإِنْ تُطِعْ) للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنيّ به كل فرد في الأمة، وتطع من الطاعة، وهي القبول والانقياد، أي وإن تسمع إلى أكثر من يعيشون على الأرض لا تهتدي؛ لأنّ أكثرهم إمّا فاسدُ العقيدةِ على الشرك، كعبدة الأحجار والأبقار والكواكب والشياطين، وملاحدة لا يؤمنون بالإله، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، الذين نسبوا لله الولد، وحرفوا دينهم، وكفروا بالرسل، وإمّا أهلُ معاصٍ وأهواء، ممن هم على الملة ودين الإسلام، لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، يزينون للناس المنكر، ويغرونهم به، ويلبسون عليهم دينهم، إن تسمع لهؤلاء جميعًا – وهم أكثر من في الأرض – يضلوكَ عن سبيل الله.
ورُصدتْ لهم في العصر الحديث الأموال الطائلةُ، من حكام السوء وأعداء الإسلام، ووضعتْ منابر الإعلام، تبث سمومها، وتدخل إلى كل بيت، فصار التضليل والدعوة إلى الانحراف شائعًا ومألوفًا بين الناس، حتى إنه لكثرة إلفهِ وشيوعه والداعين إليه، تخيل الجاهلون أنّه الأمر السويّ، وما خالفه شاذّ، على غير هدى، ولذلك جاء التنبيه بقوله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)، وهو وجه من غربة الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأَ الدينُ غريبًا ويعودُ غريبًا)( )، وسبيل الله: الحق والطريق الموصلة إليه.
وهؤلاء الذين يضلُّونَ عن سبيل الله (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) أي ما يتبعون إلا ما ارتأوه بعقولهم وحسّنته نفوسهم، من غير دليل من وحيٍ ولا برهان، فالظن الذي يتبعونه هو الظن المأمور باجتنابه في قوله تعالى: ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱجۡتَنِبُوا۟ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمࣱ﴾( )، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ)( )، وليس هو الظنّ المأمور باتباعه في استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية؛ لأن هذا ظنٌّ ناشئ عن دليل مجمل من الوحي المعصوم، وذاكَ ظن منفلتٌ من غير قيود، تابعٌ لهوى النفوس، وتخمينِ العقول، ووسوسةِ الشياطين، وهو التخرّصُ في قوله (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِۦۖ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ)(117)
لا قيمة للكثرة، ولا لما تعارف عليه من يتبعون الظن عن غير دليل، وإن شاعَ وذاع انحرافهم، وقال به السوادُ الكثير منهم، فلا تغتروا بذلك، وتظنوا أنه ما كثر القائلون بهِ والداعون إليه هذه الكثرة إلَّا لأنه الهدى والحق، لا تغتروا بذلك، فـ(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
فقوله (مَنْ يَضِلُّ) مَن اسم موصول، منصوب بنزع الخافض، أي: ربك أعلمُ بالفريقين؛ أعلم بمن يضلُّ عن سبيله، و(أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وقد أخبر الله أن القليل هم المهتدون، فلا تعجبكم الكثرة: ﴿قُل لَّا یَسۡتَوِی ٱلۡخَبِیثُ وَٱلطَّیِّبُ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ كَثۡرَةُ ٱلۡخَبِیثِ﴾( )، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ﴾( )، وقال تعالى: ﴿وَقَلِیلࣱ مِّنۡ عِبَادِیَ ٱلشَّكُورُ﴾( )، وقال تعالى: ﴿وَمَاۤ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِینَ﴾( ).