المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (344)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (344)
[سورة الأنعام:130-134]
(يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ)(130)
هذا النداءُ (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) ممّا يقال للثقلين في المحشر، لتبكيت المكذبين منهم، أي يقال للجن والإنس قد جاءتكم رسل مرسلة من الله إليكم، لبيان ما يجب عليكم من الإيمان والتوحيد، فقُررُوا بسؤال مباشر: ألم يأتِكم رسلٌ منكم يخبرونكم عن الله بما يجبُ عليكم، ويحذرونكم مما يحل بكم في هذا اليوم؟
ولما كان الخطاب في المحشر للكفارِ، لتبكيتهم وإقامةِ الحجة عليهم؛ ذكر لهم ما يدل على التخويف وهو النِّذارة، دون الخبر الدالِّ على ما يسر، وهو البِشارة، فالاستفهام في (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) تقريري؛ لأن الهمزة للنفي، ولَم للنفي، ونفي النفي إثبات، وقوله (مِنْكُمْ) من باب التغليب؛ لأن الله لم يبعث من الجن رسلاً لأقوامهم، فكل الرسل من الإنس، أو يكون مرجع الضمير في منكم إلى بعض المذكور في قوله (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)، على حد قوله: ﴿یَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ﴾( )، أي يخرجُ اللؤلؤ والمرجان من بعض المذكور، وهو البحر المِلحُ لا العَذب.
ويمكن أن يشمل قوله (رُسُلٌ مِنْكُمْ) بعض الجن، وهم الذين حضروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وسمعوا منه القرآنَ، ثم رجعوا إلى قومِهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذۡ صَرَفۡنَاۤ إِلَیۡكَ نَفَرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤا۟ أَنصِتُوا۟ فَلَمَّا قُضِیَ وَلَّوۡا۟ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِینَ﴾( )، وتكون الجن قد بلغتْهم الدعوةُ بواسطة مَن سمعَ منهم مِن النبي صلى الله عليه وسلم القرآنَ، فالذين بلّغوا للجن هم رسلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الجن الذين سمعوا القرآن، وليسوا رسلَ الله، وبذلك صار الجن مكلفين.
والآيات في (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) هي آيات القرآن، ويقصون مِن القَصص، وهو الإخبار بما في القرآن من التوحيدِ والإيمان بالأنبياء، وما فيه من العبر مما حلّ بالمتكبرينَ من الأمم الماضية، والنِّذارة في قوله (وَيُنْذِرُونَكُمْ) الإخبار بالأمر المخيف، ضد البِشارة: الإخبار بما يفرح.
وقوله (شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا) أي أجابوا بقولهم أقررنا على أنفسنا لأن الرسل قد جاءتنا وأنذرتنا، فالشهادة على النّفس إقرار عليها، فإنهم في القيامة يقرّون على أنفسهم بالجناية والظلم، وبإعراضهم وعنادهم للرسل، وقادهم إلى ما هم فيه من الذلّ وسوء المصير اغترارُهم بالحياة وزخرفها فألهتهم، حتى وجدُوا أنفسَهم قد أحاطَ بهم العذاب، فشهدوا على أنفسهم عند المساءلة وأقرُّوا بأنّهم ظالمون يستحقون ما حلّ بهم.
(ذَٰلِكَ أَن لَّمۡ يَكُن رَّبُّكَ مُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡمٖ وَأَهۡلُهَا غَٰفِلُونَ)(131)
الإشارة بقوله (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى) إلى ما تقدم من إرسال الرسل إلى المكذبين، في قوله (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي)، أي ذلك الأمر بإرسال الرسل إليكم يا معشر الجن والإنس وإقراركم بذلك، لئلَّا يكون الحالُ والشأن أن يقعَ الهلاك على قريةٍ مِن القرى (وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) لم تُرسل إليهم رسل ولم تبلغْهم الدعوة إلى الله، فإنه إذا لم تُبعثْ إليهم الرسل تبلِّغهم لَتظَلَّموا، وقالوا: ﴿رَبَّنَا لَوۡلَاۤ أَرۡسَلۡتَ إِلَیۡنَا رَسُولࣰا فَنَتَّبِعَ ءَایَٰتِكَ مِن قَبۡلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخۡزَىٰ﴾( )، قال تعالى في هذا المعنى ﴿رُّسُلࣰا مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ﴾( ).
ومُهلك القرى: مدمِّر القرى، وإهلاكها هو بالظلم، فالباء للسببية؛ بسبب ظلم أهلها، وأسندَ الهلاك إلى القرى في قوله (مُهْلِكَ الْقُرَى) ليدلَّ أنّ الهلاك يعمّها ومَن عليها؛ لأنها إذا هلكتْ هلكَ كلّ مَن عليها، ونسب الظلم إلى أهلها وربما الظلمُ لم يقعْ من جميعهم، لكن لأنّهم سكتُوا عنه أُخذوا جميعًا، قال تعالى: ﴿وَٱتَّقُوا۟ فِتۡنَةࣰ لَّا تُصِیبَنَّ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مِنكُمۡ خَاۤصَّةࣰۖ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾( ).
وجملة (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ) تعليل لبيان الحكمة من إرسال الرسل، و(أَنْ) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وخبرها جملة (لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ) أي الحال والشأن أن الله لا يهلك القرى دون أن يرسل إليهم الرسل فيجدون لأنفسهم عذراً يحتجون به عند الله.
(وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٞ مِّمَّا عَمِلُواْۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ)(132)
بعدَ أن ذكر اللهُ تعالى أنه يهلك القرى وأهلها بالظلم، بين أنه لا أحد يظلم عند الله، فالصالحون وإن أُخذوا مع غيرهم، فمراتبُهم ومنازلهم في الآخرة محفوظةٌ؛ لأنهم يحشرونَ على نياتهم، وعلى أعمالهم، ولا يظلم ربك أحدًا، في الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَنْزَلَ اللهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ)( )، وفِي صَحِيحِ البخَارِيِّ، مِن حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمُ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ – أَيْ عَقَدَ إِصْبَعَيْنِ بِعَلَامَةِ تِسْعِينَ فِي الْحِسَابِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْعُقَدِ، بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْقَافِ – قِيلَ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ، قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)( ).
وإهلاكُ الصالحين بسببِ ظلمِ الظالمينَ محلُّهُ إذا سكتُوا عن الظلمِ، وهادَنوا أهلَه إرضاءً لهم، أو طمعًا في ما في أيدِيهم مِن جاهٍ أو سلطانٍ أو مالٍ، وهو معنى قوله: ﴿وَٱتَّقُوا۟ فِتۡنَةࣰ لَّا تُصِیبَنَّ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مِنكُمۡ خَاۤصَّةࣰ﴾( ).
أمَّا إذا قام الصالحونَ بما عليهم من واجبِ الأمر والنهي، وقارعُوا باطلَ المبطلينَ بالإنكار عليه، فإن الله ينجيهم في الدنيا، ويحفظ لهم منازلهم في القيامة، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِ أَنجَیۡنَا ٱلَّذِینَ یَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوۤءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ بِعَذَابِۭ بَءِیسِۭ بِمَا كَانُوا۟ یَفۡسُقُونَ﴾( )، وقد ذكر الله تعالى في مواضع كثيرة أنه نجى أنبياءه ومن آمن من أقوامهم وأهلك المكذبين، فقال: ﴿فَلَمَّا جَاۤءَ أَمۡرُنَا نَجَّیۡنَا صَٰلِحࣰا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُ بِرَحۡمَةࣲ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡیِ یَوۡمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾( )، ﴿وَلَمَّا جَاۤءَ أَمۡرُنَا نَجَّیۡنَا شُعَیۡبࣰا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُ بِرَحۡمَةࣲ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ ٱلصَّیۡحَةُ فَأَصۡبَحُوا۟ فِی دِیَٰرِهِمۡ جَٰثِمِینَ﴾( ).
والتنوين في (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ) عِوَضٌ عن الإضافة، أي لكل أحد ممن أُهلكوا درجةٌ ومنزلةٌ عند الله بحسبِ عمله، فقوله (دَرَجَاتٌ) أي مراتب ومنازل، والدرجات معناها صعودٌ لأهل الجنة إلى أعلى، وضدها الدركاتُ، وهي النزول لأهل النار إلى أسفل، فالجنة درجاتٌ والنار دركاتٌ.
و(مِن) في قوله (مِمَّا عَمِلُوا) للتعليل، أي: تتفاوت درجاتهم في الآخرة بسبب أعمالهم، وأعمالهم كلها مَحصية عند الله مسطرة في كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، فالله لا يفوته شيء من أعمالهم ولا يغفُل عنه.
(وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ)(133-134)
جملة (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) عطف على قوله (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فبعد أن ذكر سبحانه أنه الربّ المتولي أمر عباده وإصلاحهم، غير غافل عن أعمالهم، مشركهم ومؤمنهم، ذكرَ أنه غنيٌّ عن إيمانهم وأعمالهم ﴿لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِیدَنَّكُمۡ﴾( )، ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِینَ﴾( ).
ومع غناه عنهم فهو رحيمٌ، بالغُ الرحمة بعباده، فيرسلُ لهم الرسلَ ويمهلهم، ويقبلُ مَن رجع إليه منهم مهما عتَا وأفسدَ وظلمَ، وجعل اللهُ الإسلام يجُبُّ ما قبله، فهو الربُّ الرحيم الودود.
والخطاب في (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) للمشركين والعصاة؛ إن يشأ الله إذهابَكم وإفناءَكم بسببِ ظلمكم وكفركم أذهبكم، لقدرته وغِناه، فما به إليكم حاجة، وَيَسْتَخْلِف ويوجِد من بعدكم ما يشاءُ، يجعلهم في الأرض خلفاءَ عنكم، كما قال تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوۡا۟ یَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَیۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُونُوۤا۟ أَمۡثَٰلَكُم﴾( )، فلا يكونون على مثل صفاتكم، بل يكونون خيرًا منكم كما قال تعالى: ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُ﴾( )، ولا عجبَ في استبدالكم، فكما أتى بكم وخلقكم من ذريةِ قوم آخرينَ جيلًا بعد جيلٍ، يذهبُكم ويأتي بغيركم مِن بعدكم.
فقوله (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) قصرٌ للغنى المطلق عليه سبحانه بأكملِ وجوهه، وكلِّ صوره، و(ذو) في قوله (ذُو الرَّحْمَةِ) تفيد قوة الاتصاف بالصفة التي أضيفت إليها، فذو الرحمة أبلغُ من قولك رحيم، فلا يقال: فلان ذو مال أو ذو علم إلا لمن له مالٌ كثيرٌ وعلمٌ غزيرٌ.
وجملة (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ) مؤكَّدة بمؤكدين؛ إنّ واللام، للردّ على منكري البعث، وقوله (مَا تُوعَدُونَ) بمعنى الوعيد، أي إن ما توعدكم الله به من البعث والجزاء (لَآتٍ) في وقته لا محالة، (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) بقادرين على الإفلات منه، ولا مانعين مَن يأتي به من الإتيان به فتُعجزونَه.