المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (345)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (345)
[سورة الأنعام:135-137]
(قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ)(135)
أمر الله نبيه بنداء المشركين (قُلْ يَا قَوْمِ) وفي ندائهم بـ(يَا قَوْمِ) ما يشعر بإشفاقه صلى الله عليه وسلم، وخوفه عليهم، لأنهم قومه وأهله؛ لتحذيرهم مما هم عليه من الشرك، فقيل لهم: اعملوا ما يمكنكم عمله، وامضوا على الحالة التي أنتم عليها من العنادِ والمكرِ، والصدّ عن سبيل الله، فإنكم ستندمون.
وقد هُدد المشركون بهذا الخطاب (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) بعد اليأس من حالهم؛ ليكفُّوا عن غيِّهم، فالأمر في قوله (اعمَلُوا) للتهديد، وقوله (إِنِّي عَامِلٌ) أي بما أمرني به ربي، من تبليغ دعوته، والثبات على أمره، والمصابرة والحرص على إيمانكم، وستعلمون مَن منَّا نحن أو أنتم من يفوز بالعاقبة الحسنة، ونهايتُه تؤول إلى السعادة في الدارين، ومن منا ستكون له عاقبة السوء، وهو تهديدٌ لهم بعاقبةِ السوء في الدارين.
وتفويض أمر الفريقين إلى الله في قوله (مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) دون أن يقال لهم: العاقبة لنا لا لكم، مع أنها معروفة للمؤمنين، تأليفًا لهم لألَّا ينفِروا وينِدّوا؛ كما في قوله: ﴿وَإِنَّاۤ أَوۡ إِیَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِی ضَلَٰلࣲ مُّبِینࣲ﴾( ) واستفتاح الخطاب بالنداء في (يَاقَوْمِ) لاسترعاء الانتباه، والإشعار بأهمية ما يطلب من المنادى.
وقوله (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) المكانة تأتي بمعنى المصدر، وهو التمكن، أو بمعنى المكان، كالدارة للدار، و(سوف) حرف لتأكيد ما يقع بعده في المستقبل، وهو إعلامهم بعاقبتهم ونهايتهم، و (مَن) في (مَنْ تَكُونُ) يصحُّ أن تكونَ استفهامية، علَّقت (علِمَ) عن العمل في نصب المفعولين، و(مَن) مبتدأ و(تَكُونُ) خبر، ويصح أن تكون (مَن) اسمًا موصولًا، مفعول (تعلمون)، من علم بمعنى عرَف، تنصب مفعولًا واحدًا.
والعاقبة والعقبى آخرة الأمر، وما ينتهي إليه الحال، وإذا أفردت كلٌّ مِن العاقبة والعقبى عن الإضافة فهي العاقبة الحسنة، كقوله: ﴿وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ﴾( )، وقوله: ﴿وَخَیۡرٌ عُقۡبࣰا﴾( )، وإذا أضيفت فقد تكون للعاقبة الحسنة كما هنا، فستعلمونَ مَن تكونُ له عاقبة الدار، وكما في قوله: ﴿أُو۟لَٰۤئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ﴾( )، وقد تكون للعاقبة السيئة، كما في قوله: ﴿ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِینَ أَسَٰۤءُوا۟ ٱلسُّوۤأَىٰۤ﴾( ).
(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إنه الحال والشأن لا فلاح للظالمين، و(الظَّالِمُونَ) يعم المشركين وغيرهم، وذِكر الظالمين الشامل لكل من اتصف بالظلم؛ لأنه إذا لم يفلح الظالمون فالمشركون بالله لا يفلحون، والجملة تعليلٌ لما قبلها، يتعينُ منها مَن مِنَ الفريقين له عاقبةُ السوء.
(وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلۡحَرۡثِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ نَصِيبٗا فَقَالُواْ هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعۡمِهِمۡ وَهَٰذَا لِشُرَكَآئِنَاۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمۡ فَلَا يَصِلُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمۡۗ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ)(136)
جملة (وَجَعَلُوا لِلهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) عطف على قوله (وَجَعَلُوا لِلهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) فبعد أن ذكر الله من أنواع شركهم العقدي ما ذكر، هذا نوع آخر من شركهم العملي في التشريع، أَعطَوا فيه لأنفسهم حق التحليل والتحريم، يحللون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ويَقسمون ما أعطاهم الله من الأنعام والحرث بين الله وبين آلهتهم، وهذا غاية الحمقِ والاستخفافِ وانحطاط العقول، فالله الذي رزقهم كانوا يَقسمُون عليه نِتاجَ زروعهم وأنعامهم، فقالوا في قسمتهم -في زَعْمِهِمْ وادعائهم الباطل- هذا النصيب من حرثهم وأنعامهم لله وَهَذَا النصيب لآلهتهم وأصنامهم، وسموا أصنامهم شركاء وأضافوها لأنفسهم فقالوا (وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) لأنهم أشركوها لله في العبادة.
فالزعم الباطل هو في التحكم في ملك الله، بجعل جزء منه ليس لله، أما ما جعلوه لله فهو حق لكنهم لا يقرون به على الحقيقة كما سيأتي، وما جعلوه لله كانوا ينفقونه على الضيفان والمساكين، وما جعلوه لآلهتهم ينفقونه على السَدَنة الذين يخدُمُونها، وكانوا يذبحونه لها على النصب.
(فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ) أي أنَّ النقص والغَبن كانوا يحملونه على النصيب الذي جعلوه لله، فإذا حصل وَفْرٌ وخِصْب في المحروث أو الماشية، في النصيب الذي جعلوه لله، وجدب وتلف في النصيب الذي جعلوه للآلهة، أخذوا الخِصب الذي حصل في النصيب الذي جعلوه لله للآلهة، وقالوا: الله غني عما أخذ منه، فاحتفظوا بنصيب آلهتهم وافرًا غير منقوص، وهذا معنى (وَمَا كَانَ لِلهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ) وإذا كان في نصيب الآلهة من الزروع والماشية سلامةٌ ووفر، احتفظوا به للآلهة، ولا يجعلون منه شيئًا لله، وهذا معنى (فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ).
فـ(جعل) في قوله (وَجَعَلُوا لِلهِ مِمَّا ذَرَأَ) بمعنى صيَّر تنصب مفعولا واحدا، و(مِن) في قوله (مِمَّا ذَرَأَ) للتبعيض؛ و(ذَرَأَ) أنشأ ونمّى لهم مِن أرزاق، و(الْحَرْث) شقّ الأرض بالمحراث للزراعة، أي جعلوا مما خلقه الله لهم من الثمار والحبوب، وما يحصلون عليه من حقولهم ومزارعهم لله نصيباً منه، (وَالْأَنْعَامِ) ما تنتجه ماشيتهم، والنصيب: الحظُّ والحصة، و(ساء) في قوله: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) من أفعال الذم، من أخوات بئس، و(مَا) اسم موصول فاعل ساء، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: ساء ما يحكمونه حكمُهم.
(وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ قَتۡلَ أَوۡلَٰدِهِمۡ شُرَكَآؤُهُمۡ لِيُرۡدُوهُمۡ وَلِيَلۡبِسُواْ عَلَيۡهِمۡ دِينَهُمۡۖ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ)(137)
الكاف في (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) للتشبيه، أي ومثلُ ذلك التزيين للشرك، بجعل جزء مما أعطاهم الله من الحرث والأنعام لله وجزء لآلهتهم، تزيين شركائهم من الشياطين لكثير منهم قتل أولادهم.
فحسّنَ السدنة والشياطين لكثير من المشركين وأْدَ البنات، وهو دسُّهن في التراب أحياء من حين الولادة.
وقوله (لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يدلّ على أنّهم لم يكونوا كلُّهم كذلك، فقد كان من المشركين من لا يئِدُ البنات، بل كان منهم مَن يفدي الموءودة من القتل بماله، ويقول لأبيها: اتركها، وأنا أكفيك نفقتها، وكان مِن هؤلاء صعصعة جد الفرزدق الشاعر، ومِن بركة ذلك عليه أنّه أدرك الإسلام وأسلم، ومنهم زيد ابن عمر بن نفيل.
والذين اشتهروا بالوأد بين العرب هُم ربيعة ومضر، كانوا يدسون البنت في التراب من وقت الولادة، قبل أن تراها أمها، يفعلون ذلك خشية الفقر، أو أن يلحقهم العار بسببها ونحو ذلك، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوۤا۟ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡیَةَ إِمۡلَٰقࣲ﴾( ).
ومِن قتْلِ أولادهم الذي زينته لهم سدنةُ الآلهة والشياطين، أنّ الواحد منهم كان ينذر لها؛ إنْ رُزق عشرةً من الذكور نحرَ واحدًا منهم للآلهة، كما وقع لعبد المطلب، حين نذرَ إنْ رُزقَ عشرةً من الولدِ لينحَرنَّ أحدَهم عند الكعبة، وعندما اكتملَ له العشرةُ أقرعَ بينهم بالأزلامِ عند الكعبة، فخرج القِدح على عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، فاستشار الكاهنَ كيف له أن يفديه؟ فأشار عليه أن يجعل عشرة من الإبل للآلهة، يقرع بينها وبين عبد الله، فإن خرجت القرعة عليه زاد عشرة أخرى وأقرع، وهكذا حتى تخرج القرعة على الإبل، فصارت تخرج القرعة على عبد الله إلى أن بلغت الإبل مائة، فنحرها، وفدى عبد الله( ).
فزين من التزيين، وهو التحسين للشيء وإن لم يكن حسنًا، و(شُرَكَاؤُهُمْ)( ) أي في الإثم، وهم السدنة خدّام الآلهة، فهم الذين زينوا لهم أنّ هذا يرضِي الآلهة، وكذلك شركاؤهم من شياطين الجن، هم أيضًا زينوا لهم هذه الأعمال القبيحة بالوسوسة، فأغووهم وأضلوهم، وسُمّي الشياطين شركاءَ لهم لأنهم كانوا يشاركونهم في أموالهم، ويذبحون لهم، ويطيعونهم كما يطاع الشريك، قال تعالى: ﴿وَأَجۡلِبۡ عَلَیۡهِم بِخَیۡلِكَ وَرَجلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡ﴾( )، فمِن شركة الشيطان لهم في الأموال أنه حرم عليهم السائبةَ وما عطفَ عليها، ومن شركته لهم في الأولاد أنهم يقتلونهم بالوأد والنذر.
واللام في (لِيُرْدُوهُمْ) للعاقبة، أي فعلوا ذلك لتكون عاقبة أمرهم هلاكهم، فبتزيين أعمال الشرك لهم أردُوهُم من حيث أرادوا نفعهم، واللبس في (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) خلط الأمور وإلقاء الشُّبه، بحيث لا يتبين لهم الحقّ، كما قال تعالى: ﴿وَلَلَبَسۡنَا عَلَیۡهِم مَّا یَلۡبِسُونَ﴾( )، واللام في قوله (وَلِيَلْبِسُوا) للتعليل، فما فعله بهم شركاؤهم من شياطين الجن وسدنة الآلهة، كان لأجل أن يلبسوا عليهم دينهم، ودينهم الذي يُلبّسونه عليهم؛ ليضلوهم عنه، هو ما بقي لهم من دين الحنيفية، الذي ورثوه عن أبيهم إسماعيل، وكان يتحنَّث به بعض أهل الجاهلية.
(وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ) هذا الذي وقع منهم ومِن شياطينهم وسدنة آلهتهم، هو بإرادة الله ومشيئته؛ للتمحيص والابتلاء، ولو شاء الله عدم وقوعه ما وقع، فلا يقع في ملكه إلا ما يريد، وضمير الرفع في قوله (فَعَلُوهُ) يعود على المشركين، وضمير النصب يعود على ما أشركوا به، ومنه جعل نصيب لله ونصيب لآلهتهم في زروعهم وأنعامهم، ووأدُهم ونحرهم لأولادهم.
(فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) فأعرضْ عنهم، ليس عليك من ألوانِ شركهم وافترائهم شيء، فما عليك إلا البلاغ.