طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (346)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (346)

[سورة الأنعام:138-140] (وَقَالُواْ هَٰذِهِۦٓ أَنۡعَٰمٞ وَحَرۡثٌ حِجۡرٞ لَّا يَطۡعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ بِزَعۡمِهِمۡ وَأَنۡعَٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا وَأَنۡعَٰمٞ لَّا يَذۡكُرُونَ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا ٱفۡتِرَآءً عَلَيۡهِۚ سَيَجۡزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ)(138)
جملة (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) عطف على قوله (وَجَعَلُوا لِلهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) والإشارة في (هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ) إلى ما جعلوه لآلهتهم من الحرث والأنعام، وقوله (حِجْرٌ) أي محجورٌ أمرها مضيّق فيها وممنوعة عن أن يطعم منها أحد، ومظهر ذلك التضييق والمنع في الأَنْعَام والحرث يفسره قوله (لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ) لا يأكل منها إلا من يقوم على خدمة الآلهة، ولا يأكل منها إلا الذكور دون النساء، فعلوا ذلك (بِزَعْمِهِمْ) وتقوّلهم على الله بغير علم.
فـ(حِجْرٌ) مصدر بمعنى محجور، كذِبح بمعنى مذبوح، يستوي فيه المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث.
وقالوا (أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا) عن الركوب والحمل، وتركت للآلهة، فلا يتعرضُ لها أحدٌ، زعموا أن الله هو الذي حرّمها، بدليل قوله (افْتِرَاءً عَلَى اللهِ) وهو من تحريمهم ما أحله الله من السوائب وما عطف عليها (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) أي: لهم أنعام يجعلونها للسدنة والآلهة، يذكرون عليها أسماء آلهتهم عند ذبحها، ويهلون بها لغير الله، ويجعلون لحمها لخدام الآلهة وتضييف من يقصدها ويأتي إليها، وما قالوه هو افتراء وكذب على الله، دون دليل ولا برهان، و (افتراءً) منصوب على المفعول المطلق المبيِّن للنوع، والعامل فيه قوله (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ).
وقوله (سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) تهديد ووعيد لهم، ولمن فعل فعلهم من الكذب على الله بالعقاب المكافئ لجرائمهم، وأُبْهمَ الجزاء في قوله: (سَيَجْزِيهِمْ) ولم يبيّن قدره؛ للتهويل، لتذهب النفس في تقديره والترهيب منه كل مذهبٍ، والباء في قوله: (بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) للسببية أي سيجزيهم اللهُ بسبب افترائهم عليه الجزاء الذي يستحقونه، أو الباءُ للمقابلة والعوض، أي سيجزيهم مقابل افترائهم، كقولك: اشتريت خمسة بمائة.
(وَقَالُواْ ‌مَا ‌فِي ‌بُطُونِ هَٰذِهِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ خَالِصَةٞ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِنَا( ) وَإِن يَكُن مَّيۡتَةٗ فَهُمۡ فِيهِ شُرَكَآءُۚ سَيَجۡزِيهِمۡ وَصۡفَهُمۡۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٞ)(139)
هذا قول آخَر من أقوالهم الباطلة، معطوف على قولهم المتقدم (هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) والإشارة في قوله (هَذِهِ الْأَنْعَامِ) إلى أنعامٍ معهودة بينهم، وهي التي حرموا ظهورها وجعلوها للآلهة، وهي البحائر والسوائب والحوام، المذكورة في قوله: ﴿مَا جَعَلَ ٱللَّهُ ‌مِنۢ ‌بَحِیرَةࣲ وَلَا سَاۤئِبَةࣲ وَلَا وَصِیلَةࣲ وَلَا حَامࣲ﴾( )، وما في بطونها هي الأجنة والنتاج واللبن.
فما في البطون مِن الأجنة خالص لذكورهم ومحرم على نسائهم ما دام سالمًا( )، فإذا مات وصار ميتة كان الرجال والنساء فيه شركاء، وهذا غاية في التعدي على أحكام الله، فبعد أن تحكموا في الأنعام، وجعلوا منها ما هو خالص للآلهة لا يتعرض له أحدٌ، تعدَّوا تعديًا آخر، فوصفوا ما تلده أنعامهم حال حياته بأنه خالص للذكور، ومحرم على الأزواج وهنّ النّساء، فإذا مات النتاج وكان ميتة حرمها الله (فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ) الرجال والنساء، يشتركون فيه عندما يكون ميتة( ).
وسبب منعهم للنساء أكل نتاج ما جعل للآلهة، أنهم يرونه مقدسًا، والنساء موصوفاتٌ بالحيض والقذارة في نظرهم، وكان العربُ لا يؤاكلون الحائضَ، وكان بنو إسرائيل يمنعون النساء دخول المساجد.
فاللام في قوله: (لِذُكُورِنَا) للاختصاص.
(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) سَيَنزل بهم من الله الجزاء المكافئ لإجرامهم، فقوله (وصْفَهم) هو وصفُهم لما في بُطُون الأَنْعَام بالتحليل والتحريم افتراءً على الله، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلࣱ وَهَٰذَا حَرَامࣱ ‌لِّتَفۡتَرُوا۟ ‌عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ﴾( ) وسينزل بهم الجزاء المساوي لإجرامهم؛ لأن الله حكيم يضع الأمور في موضعها، عليم لا تخفى عليه عند الحساب خافية.
(قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوٓاْ أَوۡلَٰدَهُمۡ سَفَهَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفۡتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِۚ قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ)(140)
(قَدْ خَسِرَ) من الخسران وهو فقد ما كان يؤَمَّلُ ويُنتظرُ مِن كسبٍ بعد سعي وكد، افترى المشركون وحلّلوا وحرموا ما طاب لهم، وجعلوا لله شيئا ومنعوه من آخر جعلوه لآلهتهم، وقتلوا أولادهم، وحسبوا أنهم على شيء، فكان عاقبة أمرهم الخسران، و(الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ) هم الذين وأدوا البنات ودفنوها أحياء، خشية الفقر وخشية العار، قال تعالى: ﴿وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ ‌سُئِلَتۡ بِأَیِّ ذَنۢبࣲ قُتِلَتۡ﴾( ).
وقوله (سَفَهًا) مفعول مطلق، قتلوا أولادهم قتل سفه، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في محل الحال من قوله (سَفَهًا) أي قتلوا أولادهم سفها ففعلوا بهم فعل مَن خفَّ عقلُه حالة كونهم متلبسين في قتلهم بالجهل، فجمعوا الجهل وخفّة العقل، وقد صح عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال: “إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعَلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ – إِلَى – وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)”( ).
وقوله (وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ) أي حرَّموا على أنفسهم وعلى غيرهم الانتفاع بما أحله الله، وجعلوه للآلهة، كما فعلوا بالسائبة ونحوها، حرّمُوا ذلك تحريم افتراء، كذبًا على الله.
(قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) الضلال وعدم الهداية سواء، فعطف وما كانوا مهتدين على قد ضلّوا للمبالغة في ضلالهم، أفاد التأكيد، وأنّهم من الضلالة بمكان بعيد لا تُرجى لهم منه عافية( ).
وقوله (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) أبلغ في نفي الهداية من قولك: وما اهتدوا؛ لما أفادته (كَانُوا) من تأكيد النفي، ولما في نفي (مُهْتَدِينَ) بصيغة اسم الفاعل من الدلالة على ثبوت نفي الهداية ودوامه.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق