طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (347)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (347)

[سورة الأنعام:141-142] (وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ)(141)
جملة (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ) عطف على قوله (وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ) فذِكر الامتنان بأن الله هو الذي أنشأ الجنات، للزيادة في تقريعهم على افترائهم، بقسمة ما رزقهم الله بينه وبين آلهتهم، والجنات المكان من الأرض به الخضرة والأشجار الملتفة الكثيرة، التي تجُنّ من يدخلها وتستره فلا يُرى.
فالجنات المعروشات: المرتفعة ثمارها وأعنابها على العرائش، بأن جعلت لها أعمدة ترتفع عليها، وغير المعروشة النباتات المخضرة المتمددة على الأرض كالبطيخ والكروم (الأعناب) المبطوحة، فالناظر يرى من فوقه خضرة ومن تحته خضرة.
(وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ) كلّ نوعٍ من النخل والزرع ذو أصناف مختلفة، في الهيئة والكيفية والطعم ، فالضمير في (أكلُهُ) عائد عَلى النخل والزرع، والأصل في المتعاطفين بالواو أن يعود الضمير إليهما مثنى، كما في قوله: ﴿وَدَاوُۥدَ وَسُلَیمَٰنَ إِذْ ‌یَحْكُمَانِ فِی ٱلْحَرْثِ﴾، وقوله: ﴿وَلَقَد ‌مَنَنَّا ‌عَلَىٰ ‌مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ وَنَجَّینَٰهُمَا وَقَومَهُمَا مِنَ ٱلكَربِ ٱلعَظِیمِ﴾، فإذا عاد مفردًا كما في هذه الآية، فيكون عائدًا على كل واحدٍ منها على البدل، أو على واحدٍ معينٍ والآخرُ يقاسُ عليه، أو على إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، بمعنى مختلفًا أُكل المذكور، وما قيل في ضمير (أكلُه) يقال في ضمير (ثمره) الآتي، وهذا بخلاف المتعاطفين بأو، فإن الضمير يعود إليهما مفردًا، كما في قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوا ‌تِجَٰرَةً ‌أَو ‌لَهوًا ٱنفَضُّوا إِلَیهَا﴾، والتقدير: إذا رأوْا تجارةً انفضوا إليها أو لهوًا انفضوا إليه. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) كلٌّ منهما ذو أنواع وأصناف، متشابه في الصغر والكبر والطعم وغير متشابه، فلا تملّ النفس منه لتنوعه، والأمر في (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) للإباحة، وهذا موضع الامتنان الذي تجاهَله المشركون، فالله امتنّ عليهم بالجنّات والثّمار ليتمتعوا بها وهم حرّموا على الله رزقه، وجعلوا له منْه نصيبا ولآلهتهم نصيبا، والثمر بالمثلثة بفتحتين وبضمتين، يطلق على ما كان نضيجا أخضر من ثمار الشجر قبل يبسه، فإذا يبِس صار تمرا بالمثناة، والضمير في ثمره يعود على النخل والزرع وما عطف عليه، وتقدّم توجيهه قريبا.
والخطاب في قوله: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) للمسلمين، والأمر فيه للوجوب، والحصاد – بكسر الصاد وفتحها وقرئ بهما – جَذاذُ التمر وقطف الحب، وهو وقت طيبه ويبسه، وحقه هو الحق الواجب فيه، وهو الزكاة المفروضة عند كثير من أهل العلم، ولا يعكر عليه كون الزكاة فرضت في المدينة وسورة الأَنْعَام مكية؛ لأن الذي فرض في المدينة تفصيل أحكام الزكاة وأنصبتها، وبيان مستحقيها، وأصل الأمر بها كان قبل ذلك، في هذه الآية وفي غيرها من الآيات المكية.
(وَلَا تُسْرِفُوا) في الأكل منها قبل إعطاء الحق الواجب فيها، ويمكن أن يكون مصرف هذا الحق المذكور في الآية قبل بيان أنصبة الزكاة ومستحقيها، لذوي القرابة والجيران، ومَن يتطلع إلى أهلها من المحتاجين والمساكين، كما قال تعالى في أصحاب الجنة: ﴿فَٱنطَلَقُوا۟ وَهُمۡ ‌یَتَخَٰفَتُونَ أَن لَّا یَدۡخُلَنَّهَا ٱلۡیَوۡمَ عَلَیۡكُم مِّسۡكِینࣱ﴾( ).
وقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) تحذير من الإسراف والتبذير، والإسرافُ المنهيُّ عنه يشمل حالتين: إنفاق الشخص من ماله بما يجاوز كفاية أمثاله، ولو في الحلال، قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَنفَقُوا۟ ‌لَمۡ ‌یُسۡرِفُوا۟ وَلَمۡ یَقۡتُرُوا۟ وَكَانَ بَیۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامࣰا﴾( )، الثانية: صرفه فيما حرمه الله قلَّ أو كثر، والنهي عن الإسراف على التحريم؛ لقوله تعالى (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فإنه تعليل للنهي عن الإسراف، ولقوله: ﴿إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِینَ كَانُوۤا۟ ‌إِخۡوَٰنَ ‌ٱلشَّیَٰطِینِ﴾( )، ولا يدخل في السرف الإنفاق في سبيل الله ووجوه البر؛ لأن الله تعالى أمر به بلا حدٍّ، قال تعالى: ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَنفِقُوا۟ ‌مِن ‌طَیِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّاۤ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ﴾( )، وقد قبِلَ النبي ﷺ من الصدِّيق مالَه كله في سبيل الله( )، ولذا قالوا: لا خيرَ في السرف، ولا سرفَ في الخير.
(وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ حَمُولَةٗ وَفَرۡشٗاۚ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ)(142)
قوله: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) هو نوع آخر من الامتنان، معطوف على الجنات في قوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ) فمِن في قوله (وَمِنَ الْأَنْعَامِ) للابتداء، أي ابتداء هذه النِّعم المتولدة من النَّعم من الله وحده، كما أنه وحده الذي أنشأ لكم الجنات فكلوا مما رزقكم ومَنّ به عليكم، واشكروه ولا تكفروه، ولا تحرّموا شيئًا من رزقه لم يحرمه الله؛ إرضاءً وطاعةً للشياطين، وإرضاءً لآلهتكم، وتقدم معنى الرزق في قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقنَٰهُم ‌یُنفِقُونَ﴾ في أول البقرة.
والأنعام: الإبل والبقر والغنم والمعز، والحمولة ما أطاق الحمل على ظهره وهي الإبل، أو جرّ الأشياء الثقيلة وهي البقر( ) (وَفَرْشًا) هو ما لا يصلح للركوب ولا جر الأشياء من الأنعام كالشاة والمعز، ويمكن حمل الفرش على صغار الأنواع الأربعة، لقربها من الأرض، والحمولة على كبارها، أو الفرش هو ما ينسج من أشعارها وصوفها وأوبارها من فُرُشٍ وأثاث، كما قال تعالى: ﴿وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا ‌وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَاۤ أَثَٰثࣰا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِینࣲ﴾( ).
(وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي إنّ شياطين الجن يوسوسون لكم، فلا تطيعوهم في التحليل والتحريم والشرك، وقتل أولادكم، والذبح لهم، ولا تتّبعوا خطواتهم (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) لا تطيعوهم لأن جنس الشيطان عداوته لكم بينة واضحة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلشَّیۡطَٰنَ لَكُمۡ ‌عَدُوࣱّ ‌فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾( )، فضمير (إِنَّهُ) المفرد يعود إلى جنس الشيطان الذي يعمّ كلّ أفراده.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق