طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (348)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (348)

[سورة الأنعام:143-145] (ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۖ مِّنَ ٱلضَّأۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡمَعۡزِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ نَبِّـُٔونِي بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ)(143)
تقسيم الآية الأَنْعَام إلى أربعة أصناف، وتنويع كل صنف إلى زوجين ذكر وأنثى، هذا التفصيل للرد على المشركين، الذين انتقوا بعض الذكور فحرموه، واختاروا بعضًا آخر منها فأحلوه، وكذلك فعلوا بالإناثِ؛ تحكمًا بأهوائهم، من غير علم ولا برهان، والسؤال هو: ما الذي جعل ما حللوه منها حلالًا، وما حرموه حرامًا؟ ما الفرق بين ذكرٍ وذكرٍ وبين أنثى وأنثى؟! (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
فقوله (ثَمَانِيَةَ) بدل من قوله (حَمُولَةً وَفَرْشًا) و(أزواجٍ) جمع زوج، وهو ما أضيف إلى غيره من جنسه، مكملًا له، كالرجل والمرأة والذكر والأنثى من الضأن أو الإبل ونحو ذلك من كل زوج.
واثنين بدل بعضٍ من كلٍّ مِن ثمانية، فالاثنان من الضأن الكباش والنعاج (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ذَكَرُ المعز وأنثاه.
والاستفهام في قوله (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ) إنكاريٌّ توبيخي للمشركين، الذين حرموا السائبة وما عطف عليها من فحول الأَنْعَام وإناثها، و(أم) في الموضعين للإضراب بمعنى بل، فيقال لهم: هل حرّم الله الذكرين؟ الكباش وذكور المعزى؟ بل هل حرم الإناث منهما وأمر بتسييبها، كما فعلتم بالسائبة والبحيرة؟ بل هل حرم الله ما اشتملت عليه أرحام الإناث النعاج والمعزى من الأجنّة في البطون، التي جعلتم السالم منها محرّمًا على النساء، وجعلتم ما كان منها ميتةً؛ الرّجالُ والنساء فيه شركاء؟ (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
والباء في: (بِعِلْمٍ) للمصاحبة، خبروني بخبر مصحوبٍ بعلمٍ وبرهانٍ، أنّ الله تعالى حرم شيئًا من هذا (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فيما حللتم وما حرمتم، فما فعلتموه هو محض افتراء على الله، ليس لكم فيه بُرهان.
(وَمِنَ ٱلۡإِبِلِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ وَصَّىٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَٰذَاۚ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ)(144)
(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) هو كالأول ذكر وأنثى بدلٌ من ثمانية (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى، والاستفهام في: (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) كالأول، لتوبيخهم على ما حرموه افتراء على الله، والمعنى: قل لهم: هل حرم الله الذكرين من الإبل والبقر؟ بل هل حرم إناثهما وأمر بتسييبها كما فعلتم بالسائبة والبحيرة؟ بل هل حرّم الأجنّة التي اشتملت عليها أرحام الإناث منها -النوق والأبقار- كما فعلتم وافتريتم عندما قلتم عنها هي خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا؟
فـ(أَمْ) في قوله: (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) وقوله: (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ) كالتي قبلها للإضراب بمعنى بل، وقوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا) أي: بل أكنتم حاضرين إذ وصاكم وأمركم الله بالتحليل والتحريم الذي اختلقتموه وافتريتموه على الله؟
والإشارة في قوله: (بِهَذَا) تعود إلى ما اخترعوه من التحليل والتحريم، والمعنى على التهكم بهم، أكنتم في التحليل والتحريم بحضرة الله العزيز الحميد، حين وصَّاكم وأمركم بأن تحلِّلوا وتحرِّموا، فإذا كان هذا بداهة محالًا لم يحصل، والرسول ﷺ كذبتموه ولَم تصدقوه، فما بقي لكم إلا الكذب على الله، ثم لم يُنتظروا ليجيبوا عما سئلوه سؤال توبيخ وتقريع؛ لأن الجواب معلوم مفروغ منه، فليس لهم على ما فعلوا برهان، ولَم يوصهم ويأمرهم الله تعالى بذلك، فما هم إلا كاذبون على الله.
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) أي: فهل هناك في الظالمين أظلم ممن كذب على الله، وقد تقدّم تفسير نظير هذه الآية، والجواب عن الاعتراض في كلٍّ منها من المفاضلة على غيره في الظلم، في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‌أَوْ ‌قَالَ ‌أُوحِيَ إِلَيَّ) في هذه السورة، وفي قوله: ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ‌مَّنَعَ ‌مَسَٰجِدَ ‌ٱللَّهِ﴾( ) في سورة البقرة.
وقوله: (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تهديد ووعيد لمن أصرّ على الظلم وناصره وحماه، وتمسك به ودافع عنه، بأنه متوعد بأن يطبع الله على قلبه فلا يهتدي، فيحرم قلبه الهداية، ولا يرى النور.
(قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ)(145)
بعد ذكر ما أحلّه أهل الجاهلية لأنفسهم من المحرمات، كالميتة وما أهل به لغير الله، وما حرموه على أنفسهم مما أحله الله، كالسائبة والبحيرة افتراء على الله، أعقب الله تعالى ذلك ببيان التشريع الحق في الحلال والحرام من المطعومات؛ ردًّا عليهم.
والخطاب في قوله (قُلْ لَا أَجِدُ) للنبي ﷺ، أمره الله تعالى أَن يبيّن للمسلمين ما أحلّه الله من الطعام وما حرّمه، فذكر لهم أن المحرمات التي أوحى الله بها إليه – إلى وقت نزول هذه الآية – لا تزيد على أربعة، وقوله (فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ) يشمل ما أوحي إليه ﷺ في القرآن وفي غير القرآن.
وقوله: (عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) أي على آكل يأكله، وذكر (يَطْعَمُهُ) مع أنه معلوم من قوله (طَاعِمٍ) قبله لرفع المجاز، كما في: ﴿وَلَا ‌طَٰۤئِرࣲ ‌یَطِیرُ﴾( )، فليس هناك من المطعومات محرّم (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) المطعوم (مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) فهو محرم، وتحريم الميتة لفساد لحمها، والدم لاستقذاره، وكذلك الخنزير (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) والميتة ما مات حتف أنفه دون ذكاة شرعية، وفي حكمها ما ذكي ذكاة غير شرعية، أو كان من غير بهيمة الأنعام، فإنه ولو كان مذكى، فهو ميتة، والدم المسفوح المصبوب الذي ينسكب عند النحر أو الذبح، أو يسيل من الفصد والجرح، لا الذي يكون في العروق وخلايا اللحم والكبد ونحوها، فليس بمسفوح، وتقييده بالمسفوح يدلّ على أن غير المسفوح ليس محرمًا، والخنزير كله محرم الأكل، لحمه وشحمه وعظمه، وخص لحمه بالذكر لأنه المقصود الأعظم منه، وكان العرب في الجاهلية يستحلّون هذه المحرمات.
والاستثناء في قوله (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) بعد النفي في قوله (لَا أَجِدُ) يفيد حصر الطعام المحرّم في هذه الأربع، وهو استثناء مفرغ من عموم الأحوال، بمعنى: لا أجد شيئًا من المطاعم المحرَّمة في حال من الأحوال إلا في أحد الأحوال الأربعة، وهي: الميتة والدّم ولحم الخنزير (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ودلالة الاستثناء على الحصر في هذه الآية بجعل الاستثناء متصلا، يرجحه الحصر بإنما، الوارد في نظيرها في البقرة: ﴿‌إِنَّمَا ‌حَرَّمَ ‌عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَیۡتَةَ﴾( )، وقد تقدم هناك مزيد من الكلام على الآية.
وقوله (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) تعليل للتحريم، والضمير (فَإِنَّهُ) راجع إلى المحرّمات الثلاثة، وإفراده بتقدير رجوعه إلى المذكور، أي: فإنّ المذكور رجس، وهو تأويل جائز في الضمير كما هو شائع في اسم الإشارة، عند عوده إلى متعدد، ويحتمل عوده إلى الخنزير؛ لأنه أقرب مذكور، أو إلى لحمه؛ لأنه المقصود بالأكل من الخنزير، والرجس: القذر والخبث.
وقوله: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) معطوف على خبر يكون في قوله (إلَّا أنْ يكونَ مَيتةً) أي: أو يكون فسقًا، وجملة: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) معتَرِضة، والفسق أصله الخروج عن الشيء مطلقًا، وفي الشرع: خروج عن أمر الله بالكفر أو المعاصي، وجملة (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) صفة لقوله (أَوْ فِسْقًا) فيكون الفسق بمعنى الكفر، وهو الذبح للآلهة.
والمعنى أَن المحرّم الذي أوحى الله به إلى نبيه ﷺ في المطعوم إلى وقت نزول هذه الآية – ولم يحرم غيره – هو ما كان ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحمَ خنزير، أو ما أهلَّ لغير الله به عند الذكاة، والإهلالُ أصلُه رفعُ الصوت عند رؤيةِ الهلال في أول الشهر، وهو هنا ذكرُ اسم آلهتهم على الذبيحة، مما يعدُّ فسقًا وشركًا.
والآية ذكرت من محرمات المطاعم أربعة، والنبي ﷺ أخبر أنّه لا يجد غيرها من المحرّمات، ولا شك أنّ هناك محرّمات أخرى، فتُحمل الآية على أنه لا يوجد محرمات في الوقت الذي نزلت فيه إلا هذه الأربعة، ولا ينافي ورود مزيد من المحرّمات بعد ذلك في آيات أخرى.
وقوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) أي: فمن وصلت به الفاقة والحاجة إلى الطعام حدَّ الضرورة الشرعية، التي تعرضُ صاحبَها للهلاك، حالة كونه غير متجاوز في الأكل حدَّ الحاجة، ولا متعدٍّ محارمَ الله، بأن كان فعلًا مضطرًّا (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مَن تناول من هذا المحرمِ في حالِ الضرورة فلا إثمَ عليه؛ لأن ربّكَ غفور رحيم، لا يوقع عباده – الذين هو ربهم يرعاهم ويصلح أمرهم ويتولاهم – لا يوقعهم في الحرج.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق