طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (349)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (349)
[سورة الأنعام:146-149] (وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖۖ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ وَٱلۡغَنَمِ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ شُحُومَهُمَآ إِلَّا مَا حَمَلَتۡ ظُهُورُهُمَآ أَوِ ٱلۡحَوَايَآ أَوۡ مَا ٱخۡتَلَطَ بِعَظۡمٖۚ ذَٰلِكَ جَزَيۡنَٰهُم بِبَغۡيِهِمۡۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ)(146)
بعد أن ذكر الله تعالى المحرَّم عند المسلمين في قوله (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) عطف عليه ذكر المحرمِ على اليهود؛ تنديدًا بفعل أهلِ الجاهلية، بأن ما شرعوهُ لأنفسهم هو تحكمٌ محض، مخالفٌ لشريعة الإسلام، ومخالفٌ لشريعة اليهود.
وتقديمُ الجار والمجرور في قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا) للاختصاص، فإن هذا التحريم خاص باليهود والظفر في قوله (ذي ظفر) عظم في الحيوان كالأصبع تحت الجلد، وكل فلقة في خف البعير هي ظفر، والحيوان منه ما لَه ظفرٌ كالإبل والسبع والطير، ومنه ما لَه ظِلْفٌ وهو الشاة، ومنه ما له حافرٌ وهو البقر والخيل، فالذي حرِّم على اليهود من الحيوان كاملًا النوع الأول، وهو ما له ظُفر؛ الإبل والسباع والطيور.
(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) تقديم المجرور في قوله (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) النكتة فيه تشوفُ السامعِ إلى معرفة حكم ذوات الظِّلف، بعد معرفة حكم ذوات الظُّفر، وقد بيّنت الآية أن المحرم على اليهود من البقر والغنم هي الشحوم، واستثنت من تحريم شحوم البقر والغنم ما حملته ظهورهما من شحم الظهر.
وقوله (أَوِ الْحَوَايَا)( ) وهي الأمعاء، معطوف على المستثنى في قوله (مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا) على الصحيح، و(مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وهو الشحم الملتصق بالعظم معطوفٌ عليها، فهذه الثلاثةُ مباحةٌ لليهود، مستثناةٌ من الشحوم المحرمة.
وعطف بعضها على بعض بـ(أَو) والعطف على المستثنى يناسبه الواو، الدالة على عموم الاشتراك في المستثنى، دون (أو) الدالة على أن المُخَرَّجَ بالاستثناء أحدُها، وهو خلافُ المقصود، وتوجيهُه أن يكونَ العطف بـ(أَو) هنا من قبيل: جالسِ الحسن أو ابن سيرين، لإفادة التساوي في الحكم.
(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) الإشارة بذلك إلى التحريم المستفاد من قوله (حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وقوله (ذَلِكَ) مبتدأ و(جَزَيْنَاهُمْ) خبر، والعائد محذوف، أي: جزيناهم به، والجزاء هو تحريم ما ذكر من المطعومات عليهم عقوبة لهم، بسبب بغيهم وعصيانهم المتكرر، وكفرهم بنعم الله تعالى عليهم، فقد عبدوا العجل، وقالوا لموسى عليه السلام: ﴿‌فَٱذۡهَبۡ ‌أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَاۤ﴾( )، وقالوا: ﴿یَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ ‌طَعَامࣲ ‌وَٰحِدࣲ﴾( )، وقالوا: حبة في شعرة، عندما قيل لهم: ﴿وَٱدۡخُلُوا۟ ‌ٱلۡبَابَ ‌سُجَّدࣰا وَقُولُوا۟ حِطَّةࣱ﴾( )، وغير ذلك من تحايلهم على التشريع وألاعيبهم.
ثم قال الله تعالى عما أنزله بهم من العقوبة (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) أكده بـ(إِنَّا) واللام؛ لأنهم زعموا أنهم أبناءُ الله وأحباؤه، وأنّ هذه المحرمات لم يحرمْها الله عليهم، وإنما هُم من حرموها على أنفسهم باختيارهم، اتباعًا لما فعله يعقوب عليه السلام، حين حرم بعض الطعام على نفسه على وجهِ النذرِ أو الحِمية، في قوله تعالى: ﴿كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلࣰّا لِّبَنِیۤ إِسۡرَٰۤءِیلَ إِلَّا مَا ‌حَرَّمَ ‌إِسۡرَٰۤءِیلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِ﴾( )، فكذبهم الله، وذكر أنه سبحانه هو الذي حرمها عليهم عقوبة لهم.
(فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمۡ ذُو رَحۡمَةٖ وَٰسِعَةٖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُهُۥ عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ)(147)
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فإن تمادى المشركون في تكذيبك بعد إقامة الحجج عليهم، وفساد ما ذهبوا إليه في التحليل والتحريم، اتباعا لأهوائهم وطاعة لشياطينهم، وكذلك اليهود إن استمروا في قولهم الكاذب إن الله لم يحرم عليهم كل ذي ظفر عقوبة لهم، وإنما هم الذين حرموه على أنفسهم لزعمهم أن الله راضٍ عنهم، إن استمر الفريقان على عنادهم ولم تنفعهم الزواجر والمواعظ (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) ربكم مِن رحمته أنه يمهل، ولا يعجل العقوبة، وليس معنى إمهاله وعدم تعجيله العذاب رضاه عمن أمهله، كما زعمت اليهود، ولكنه إمهال ليتدارك من في قلبه خيرٌ، حتى لا تفوته الفرصة وتدركه الحسرة.
(وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) إن أمهل سبحانه فإنه لا يهمل، وهو ذو بأس وقوة ومنعة، وبأسه إذا أتى أجله لا يرده أحد عن القوم المجرمين، فليحذروا بأسه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ)( ).
(سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَٰلِغَةُۖ فَلَوۡ شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِينَ)(148-149)
في قوله (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) عود إلى محاجة المشركين، وردٌّ من القرآن على شبههم وأكاذيبهم، فإنهم سيقولون ويحتجون عليكم بالقدر، وأن شركهم وعبادتهم للأوثان هم وآباؤهم وتحريمهم ما حرموه من السائبة ونحوها وتحليل ما حللوه من الميتة ونحوها، كله واقع بمشيئة الله، وأنه راضٍ عليهم بذلك، ولولا مشيئته لم يكن شيء مما ذكر.
ومذهبهم في التبرير وسلب الإرادة كمذهب الجبرية، والفرق بينهم أن الكفرةَ يحتجون بذلك على حقيقةِ الإشراك، وما يرتكبون من سائر القبائح؛ لأن مشيئة الله عندهم تساوي أمره بالشيء، فما شاءه أمر به في زعمهم، والجبرية وإن اعتقدوا أن الكل بمشيئة الله، لكنهم يفرقون بين المشيئة والأمر، فإن القبائح وإن كانت بمشيئة الله فإنها مخالفة للأمر التكليفي، ومخالف الأمر يستحق العقاب.
واستدلال المشركين على هذا النحو غاية في الفساد؛ لأنهم لم يفرقوا بين أوامر الله الكونية المتعلقة بمشيئته، في قوله للشيء كن فيكون، وبين أوامره التكليفية بالطاعة وترك المعصية، وجعلوهما سواء، وهو ما يردُّه العقلُ بداهةً، فَلَو أعطى أحدٌ لنفسه العذرَ على الكفر أو على معصية الله، وقال: لا لوم عليَّ فيه لأنه بمشيئةِ الله، ولو شاء الله ما عصيتُ، للزمه إذا تعدَّى عليه أحدٌ فصفعهُ أو أخذ ماله ألَّا يلومَه؛ لأن للجاني أن يقول: ما أخذت مالَكَ إلا بمشيئة الله، ولو شاء اللهُ عدمَ أخذه ما أخذتُه، فلا لومَ عليّ، ولا عاقلَ يقرُّ ذلك، بل كلُّ أحد يعاقِبُ الجاني؛ مع أنه يعلمُ أنه مقدر عليه، لأنه يراهُ فعلَ ذلك باختياره وإرادته، ولمخالفته عندَ المسلم لأمرِ الله، وإذا كان الاحتجاجُ بالقدر لا يقبله أحدٌ عذرًا لمن تعدّى عليه، فكيف يقبله عذرًا لنفسِه في معصية الله؟
فالأمر الكونيُّ والمشيئةُ غيبٌ لا نعلمه، ولذا ليس هو محلَّ تكليف، فلا يجوز التعلق به في التنصلِ من التكاليف، وإلا لتناقضتْ أوامرُ الله الكونية مع أوامره التكليفية، فيصير مَن فعل المعصية مأمورًا بفعلها بالمشيئة الكونية، منهيًّا عنها بالأمر التكليفي بترك المعصية، وهذا محالٌ، وظاهرُ الفساد.
وفِي قوله (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إعجاز قرآني بإخبار عن شيء سيقوله المشركون في المستقبل، ثم هم قالوه بالفعل كما أخبر القرآن، فقد ورد في سورة الزخرف: ﴿وَقَالُوا۟ لَوۡ ‌شَاۤءَ ‌ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُم﴾( )، وفِي سورة النحل: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ ‌أَشۡرَكُوا۟ ‌لَوۡ ‌شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِ مِن شَیۡءࣲ نَّحۡنُ وَلَاۤ ءَابَاۤؤُنَا﴾( )( ).
وقوله (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثل هذا التكذيب والاعتذار الباطل بالغيب، الذي اعتذر به هؤلاء ولا علم لهم به، كذَّبَ الذين من قبلهم من الأمم الماضية، وتوافَقُوا عليه (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) البأسُ: الشدة والقوةُ، وهو العذاب، وإضافته إلى ضمير القوي الجبار سبحانه مشعر بفظاعته وتهويله.
ومعنى (ذَاقُوا) مسهم وأصابهم ونزل بهم فأهلكهم واستأصلهم، فلم يبق لهم من باقية، ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم سؤالَ تبكيت وتهكم: (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) أي هل عندكم اطلاع على ما في علم الله بما سيكون منكم، وأنه أراد لكم الشرك؟ تخرجُوه لنا وتطلِعُونا عليه.
ولمَّا كان الحال والشأن أنه لا أحد منهم يقدرُ أنْ يدعي اطلاعَه على علم الله، جاء الجواب من الله عن السؤال بقوله (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) الكاذب المذموم، الذي ليس عليه بيان ولا برهان (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) ما تتبعون فيما تقولونه إلا الكذب والرجم بالغيب، والتقول من غير علم ولا دليل، فالخرص والتخريص: التخمين والتقدير.
وقوله (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) استكمال لتبكيتهم وقطع حُجتهم، فإنهم لما لم يخرجوا شيئا من علم، أُخبروا بالحجة الباهرة، والمعنى: أمَّا وقد انقطعتُم وبهتُّم، فقل لهم: فلله الحجة البالغة، والحجة أصلها من الحج وهو القصد؛ لأن صاحبها يقيمها يقصد بها أن يُمكَّن من تحقيق دعواه، والبالغة القوية المؤكدة، ومنه (أيمانٌ بالغةٌ) أي مؤكدة، وهي التي بلغت بقوتها ما توصل بصدق صاحبها إلى إثبات الحق المقصود.
(فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) الله قادر أن يوفقكم إلى الإيمان، ويهديكم إليه أجمعين لو أراد، كما قال تعالى: ﴿لَّوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ ‌لَهَدَى ‌ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰا﴾( )، ﴿وَلَوۡ ‌شَاۤءَ ‌رَبُّكَ لَءَامَنَ مَن فِی ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِیعًا﴾( )، ولكن مشيئته تعلقتْ بما أجرَى عليه سننه الكونية، من ربط الأسباب بالمسبَّبات، ليتحققَ العدلُ والقسط بين الناس، فلا يستوي الخبيثُ والطيب، ولا الصالح والطالح، ولا يتحققُ ذلك إلا بأن يترك الناس يختارون لأنفسهم – بمقتضى إرادتهم – الطريقَ التي يسلكونها، كما قال تعالى: ﴿وَهَدَیۡنَٰهُ ‌ٱلنَّجۡدَیۡنِ﴾( )، بحيث يتفاضل الناس بجدهم واجتهادهم، ويتمايزون ويتنافسون في رفع أقدارهم في الآخرة، وابتكارهم وتفوقهم فيما ينفعهم في الدنيا، فلا يكون بلوغ المعالي في الدارين إلا بالحوافز الجزائية على الأعمال الصالحة، النافعة للدنيا وللآخرة، قال الله تعالى: ﴿‌لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰا﴾( ).

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق