المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (35)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (35)
(وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)[البقرة:41].
بعد تذكير بني إسرائيل بنعم الله تعالَى عليهم، دعاهم القرآنُ إلى الإيمانِ بجميعِ الكتبِ، التي أنزلَها الله تعالى على أنبيائِه، ومِن بينِها القرآنُ، ويستفادُ هذا مِن العموم، الذي دلّ عليه الموصول في قوله: (بِمَا أَنْزَلْتُ)، وفي تعليقِ الأمر بما أُنزلَ الله، حالةَ كونِه مصدّقًا لِما معهمْ، دون ذكرِ اسم (القرآنِ)، أو (الكتابِ)؛ ما يحثُّهم على التصديقِ، ويقيمُ عليهم الحجةَ؛ لأنّهم عاهدُوا أن يقبلُوا ما جاءَهم مِن عندِ الله؛ كما قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا)[1].
والإيمانُ بالقرآنِ يقتضي الإيمانَ بمَن أنزلَه، وهو اللهُ تباركَ وتعالى، وبمَن أُنزلَ عليهِ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وكذلك سائرُ الأنبياء.
وقوله عن القرآن: (مُصدِّقًا لِما مَعَكُم) والمراد التوراة، دون أنْ تُذكر التوراة بخصوصِها؛ ليعمّ التوراةَ وما أُلحقَ بها، مِن كتبِ أنبياءِ بني إسرائيلَ؛ كالزبورِ، وصحفِ أنبيائِهم، وتصديقُ القرآنِ للتوراةِ وما معَهم معناهُ: تصديقهُ لِما جاءتْ به كتبُهم مِن التوحيدِ، وأصولِ الإيمان، والأمرِ بالعدلِ والفضائلِ، والبشارةِ بمحمد صلى الله عليه وسلّم، ولا يعارضُ هذا التصديقَ نسخُ الإسلامِ لبعضِ الشرائعِ والأحكامِ في كتبِهم، ممّا اقتضتهُ الحكمةُ والمصلحةُ؛ لأنّ النسخَ إزالةُ حكمٍ وإبدالُه بحكمٍ آخرَ، يجمعُهُما أصلٌ واحدٌ، وليس تكذيبًا وإبطالًا للحكمِ الأولِ.
(وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) بعدَ أن أمرَهم بالإيمانِ، نهاهُم عن أنْ يكونُوا أولَ مَن يكفر بالقرآنِ، و(أول) معناهُ السابقُ لغيرِه.
وعدمُ المطابقةِ في اللفظِ بينَ المبتدأِ والخبرِ في قولهِ: (تَكونُوا) بصيغةِ الجمع، و(أَوّلَ كافرٍ) بالإفرادِ؛ إمّا لأنّ أوّل على وزنِ أفْعَلَ، وأفعلُ إذا أضيفَ إلى اسمٍ مشتقٍّ مِن الفعلِ جازَ إفرادُ ذلك الاسمِ، ولو كانَ المرادُ به الجماعةُ؛ كما قال الشاعر:
وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَألْأَمُ طَاعِمٍ وَإذِا هُمُ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ
وإمّا على أنّ كافرًا صفةٌ لمضافٍ إليه محذوف، تقديرُه: أولَ فريقٍ كافرٍ، والمراد النهيُ عن الكفرِ بجملتِه، وخصّت الأوّليّةُ في الكفرِ بالنهيِ؛ لأنّهم كانوا رؤُوسًا في الكفرِ، متقدِّمين فيه، فوقعَ التغليظُ عليهم؛ زَجرًا لهم، فليسَ للأوليةِ في الكفرِ مفهومٌ، والنهيُ عن أنْ يكونُوا سابقينَ إلى الكفرِ، يدلُّ على الأمرِ بضدِّهِ، وهو أنْ يكونُوا مبادرينَ إلى الإيمانِ.
وإذا جعلَ الضميرُ في قولهِ: (أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) راجعًا إلى القرآنِ، كان التقديرُ: أوّلَ كافرٍ به مِن أهلِ الكتابِ.
(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) نُهوا عن أنْ يكونُوا أولَ مَن كفرَ، وألّا يأخذُوا على آياتِ الله ثمنًا مِن عَرَضِ الدّنيا، وهو مهْما بلغَ فهوَ قليلٌ، يأكلُون فيه بدينِهم، كما كانَ يفعلُ أحبارُهم، كانُوا يأخذونَ الرّشى، ويكتمونَ الحقَّ، ويغيِّرونَ صفةَ نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلّم في كتبِهم.
وقوله: (بِآيَاتِي) بالجمعِ؛ لتعظيم الآيات وتشريفِها، بالإضافةِ إلى اسم الجلالة، وقوله: (ثَمَنًا قَلِيلًا) حُقِّر الثمنُ بإفرادِه، ووصفِه بالقِلة؛ تنفيرًا مِن هذه الصفقة الخاسرة، والنهيُ في قولِه: (وَلَا تَشتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَليلًا) وإنْ كانَ لبني إسرائيلَ، فإنه يدخلُ فيه كلُّ مَن فعلَ فعلَهم، ممّن يبيعُ دينَه، ويغيِّر الحق، ويكتمُه، على عرَضٍ مِن الدّنيا، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)[2].
والعلماءُ معنيونَ بهذا الأمرِ قبلَ غيرِهم؛ فإنّ اللهَ تعالى أخذَ عليهم الميثاقَ؛ لتبيِّنُنهُ للناسِ ولا تَكتُمونَه.
(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) الكلامُ فيها كمَا تقدم في قولهِ: (وَإِيّايَ فَارهَبُون)، والفرقُ بينَ التحذيرينِ؛ أنَّ الرهبةَ مقرونٌ بها وعيدٌ بالِغٌ شَديدٌ.
[1] [البقرة:91].
[2] [البقرة:174،175].