طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (350)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (350)

[سورة الأنعام:150-151] (قُلۡ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشۡهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَاۖ فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡۚ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ)(150)
أي قل لهم يا محمدُ: احضروا إلينا وأقبلوا علينا وأتوا بشهدائكم، على أنّ لديكم مَن اقتديتم به في الشرك والتحليل والتحريم.
ومعلوم أنه ليس لديهم على التحريم شهداء حق تقبل شهادتهم، لكن قد لا يعدمون شهودَ الزُّور، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: فإن شهدوا وأتوا بشهداء الباطل زورًا (فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) فكذبهم، وأقم الحجة عليهم، وأسقطْ باطلهم، وبيِّن فسادَ رأيهم، لأنهم كاذبون، فـ(هَلُمَّ) اسم فعلِ أمرٍ، بمعنى أَقبِل، لا يتصرف عند الحجازيين، يلازم حالة واحدة مع الضمائر، فيقال: هلم يا هندُ ويا هنود وَيَا زيد وَيَا زيود، وعند الكوفيين متصرف بحسب الضمائر، وهي لغة القرآن، فيقال: هلمَّ وهلمي وهلمنَ وهلمُّوا وهلمَّا، ويستعمل لازمًا، كما في قوله (هَلُمَّ إِلَينا) ومتعديًا، كما في هذه الآية (هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ).
و(شُهَدَاءَكُم) جمع شهيد، ومعناه الشاهد، والإشارة بقوله (حَرَّمَ هَذَا) إلى معهود معلوم من السياق، وهو ما حرمه أهل الجاهلية من ذكور الحيوان وإناثه في قوله: (قل آلذّكَرَين حرَّمَ أمِ الأنثَيينِ).
(وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) من أهل الكتاب وانساقوا وراء أهوائهم (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ولا تتبع أهواء المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، وجيء بالظاهر في قوله (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بدل الضمير (وهم)، للتسجيل والشهادة عليهم بعدم الإيمان نصًّا (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) المشركون والكفرة من أهل الكتاب يعدلون بربهم غيرَه ويساوُونه به، ويختارون ويعبدون سواه.
(قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ)(151)
بعد أنْ ذكر اللهُ محرمات بهيمة الأنعام، من الميتة وما عطف عليها، ذكر لهم محرمات أخرى يجب أن يعرفوها، ونهاهم عن الشرك، وحذرَهم مِن كلّ ما يخالف زكاةَ النفس وتطهيرها من خصال الخير، ونهاهم عن الآثام والفواحش، فسياق الآيات المتعاطفة سياق تصحيح العقيدة وتقويم السلوك، وإرشاد إلى المكارم.
والمعنى: قل لهم يا محمد: تعالوا أقرأ عليكم الذي حرمه ربكم عليكم والذي أمركم به، حرم عليكم الشرك وعبادة الأوثان، وأمركم ببر الوالدين والإحسان إليهما، ونهاكم عن قتل الأولاد ووأد البنات فلا تقتلوهم خوف الفقر والحاجة فإن الله يرزقكم وإياهم.
فـ(تَعَالَوْا) من تعالَ فعل أمر لطلب الإقبال، وفيه معنى العلو، ليرتفع السامع إلى المتكلم ويقبل عليه، وفيه تعريضٌ بالمشركين بأنهم في حضيضِ الجهل، لعلهم ينتبهون، فيرتفعون عنه.
و(أَتْلُ) فعل مضارع مجزومٌ في جواب الطلب، بمعنى: تعالوا أقرأ عليكم وأحكِ لكم باللفظ ما أوحاه الله إليَّ، و(ما) في (مَا حَرَّمَ)( ) موصولة والعائد محذوف، و(أن) في (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) تفسيرية، تفسر معنى تلاوة ما حرمه الله تعالى عليهم؛ لأن التلاوة فيها معنى القول دون حروفه، ويكون المعنى أنَّ ما حرمه ربكم عليكم تفسيره وبيانه: ألا تشركوا به شيئًا، وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تقربوا الفواحش، ولا تقتلوا النفس… إلى آخره( ).
فقوله (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) من عطف الأمر على النهي باعتبار ضد الإحسان، لأن الأمر بالإحسان نهي عن ضده وهو الإساءة والعقوق، من باب: الأمرُ بالشيء نهي عن ضده، ونحو هذا يجري في باقي المأمورات، المعطوفة في قوله (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) على معنى ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تبخسوا الميزان، ولا تنكثوا العهدَ، فهذا تفسيرُ ما حُرّم عليكم.
و(إِحْسَانًا) منصوبٌ على المصدر النائب عن فعله، والتقدير: أحسنُوا بالوالدين إحسانًا، والإحسان إلى الوالدين فعل ما يرضيهم، فيما لا ضرر على الولد منه، ولا تعنُّت فيه من الوالد، ولا هو مجافٍ للعدل الذي أمر الله به.
وجملة (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ) عطف على النهي قبله في قوله (أَلَّا تُشْرِكُوا)، والإملاق: الفقر، و(مِن) تعليلية بمعنى: لا تقتلوهم من أجل الفقر، وهو هنا بمعنى الإصابة بالفقر الواقع بالفعل، وفي الآية الأخرى في الإسراء قال: ﴿ولا تقتلوا أولادكم خَشۡیَةَ ‌إِمۡلَٰقࣲ﴾( )، أي خشية الفقر في المستقبل، ولذا في خشية فقر المستقبل قال: ﴿‌نَرۡزُقُهُمۡ ‌وَإِیَّاكُمۡ﴾( ) لأن الرزق على ما يحدث من الولد الذي يكون في المستقبل، وفي الأولى عند الفقر الواقع على الآباءِ بالفعل قدَّم الآباء، فقال (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وجملة (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) معترِضة؛ للتعليلِ عن النهيِ عن قتلهم، بأن اللهَ هو الذي يرزقكم ويرزقهم، فلِمَ تقتلونهم؟.
وفِي تقديم رزق الآباء (نَرْزُقُكُمْ) على رزق الأبناء نكتةٌ أخرى، تؤكد معنى التعليل، فإنه كما رزقكم أيها الآباء ولم يقتلكم يرزق أبناءكم، والفواحش في قوله (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ) الآثام الكبيرة، كالزنا وغيره من عظائم الذنوب، والجمع (فواحش) للتكثير والمبالغة، وقد سمى الله تعالى الزنا فاحشة في قوله: ﴿وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلزِّنَىٰۤ إِنَّهُ ‌كَانَ ‌فَٰحِشَةࣰ وَسَاۤءَ سَبِیلࣰا﴾( )، لا تقربوا من هذه الآثام والفواحش ما ظهر منها؛ كالحرابة والبغي والسطو والقذف، وما بطن؛ كالزنا والسرقة والخيانة والغدر.
والاستثناء في قوله (إِلَّا بِالْحَقِّ) مفرغ من عموم الأحوال، أي لا تقتلوا النفسَ المعصومة التي حرم الله قتلها في حالٍ من الأحوال، إلا في حالِ قتلها بحق، وقتلها بالحق قتلها قصاصًا، ودفعًا للصائل والباغي، وقتل العدو المحارب، والزاني المحصن، والمرتد المفارق لدينه، والمحارب قاطع الطريق، ومانع الزكاة، وتارك الصلاة، والساحر، ودليلُ بعضِ ذلك القرآنُ، وبعضِه السنةُ، وبعضِه الإجماعُ.
والإشارة في (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) إلى ما تقدم من المنهيات والمأمورات وهو متعدد، على معنى (ذَلِكُمْ) المذكور، و(وَصَّاكُمْ) أمركم بهِ أمرًا مؤكدًا و(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لأجل أن تتبصرُوا وترشُدُوا، وتُعملوا عقولكم فيما ينفعكم، ولما كانت هذه المنهيات كالشرك والعقوق متفشيةً بين العرب، ختمت الآية بقوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لتوجيههم إلى إعمال عقولهم لينتهوا عن ضلالهم.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق