المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (351)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (351)
[سورة الأنعام:152-153]
(وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ)(152)
جملة (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) عطف على المنهيّات في قوله (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) وما بعده، والنهي عن الاقتراب من مال اليتيم أبلغ من النهي عن أكله؛ لأنّ منع الاقتراب منه والحوم حوله يضمن سلامة أكلِ ماله، ما قلَّ منه وما كثُر، ويقطع دابر الطمع فيه، وهكذا في كلّ المحرّمات التي ورد النهي عن الاقتراب منها، كما في قولِه (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ) وقولِه: ﴿وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلزِّنَىٰۤ﴾( ) ونحوه، فهو على وجهِ المبالغةِ في الابتعادِ عنها، وسَدِّ الذريعة إليها، وجاء النهي عن مالِ اليتيم على هذا النحو المؤكد؛ لأنّه مالُ ضعيف، لا يقدرُ أن يحميَ نفسه، والمالُ الذي ليس له أحدٌ يحميه، يكون عرضةً للنهبِ والسَّلب.
والباءُ في قوله (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) للملابسة، وأفعلُ التفضيل (أَحْسَنُ) معناه التلبسُ بصفة الحسن، لا المفاضَلة، فهو ليس على بابه، والاستثناء مفرغٌ من عموم الأحوال، والتقدير: لا تقربُوا مالَ اليتيم بحال من الأحوال، إلا حالة كونكُم مصاحبين الإحسانَ في القرب منه، والاستثناء احتراسٌ دعا إليه النهيُ المؤكَّد عن الاقترابِ من ماله، حتى لا يؤدِّيَ النهي إلى تركِ مخالطة اليتامى، وإهمالِ أموالهم تورعًا؛ فتضيع أموالهم، وتتعرّض للتلَف.
و(حتى) في قوله (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) للغاية، وأصلُ الأشُدّ: القوة، وهو هنا الرشدُ وبلوغ الحلم، أي: هذا النهيُ عن الاقتراب من مال اليتيم غايتُهُ بلوغ الحلم، المتطلب كاملَ العقل، الذي يرتفع معه عن اليتيمِ ضعفُ البدن والعقل، ويحلّ محله كاملُ الإدراك وقوة البدنِ، فإذا ما بلغ اليتيم الحلم ارتفع عنه اليتم.
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) أوفوا الكيلَ فيما يكال، والوزن فيما يوزنُ، والوفاء فيها معناه عدم التطفيفِ والبخس، وليس بالضرورة الزيادة على الحقّ؛ لأن الله تعالى قيّده بالقسط، والقسط هو العدل والمساواة، فمن أعطى لمن يبايعه وزنه أو كيله دون زيادةٍ فقد وفى له؛ لأنَّ الذي نهى الله عنه هو التطفيف والخسران، قال تعالى: ﴿وَیۡلࣱ لِّلۡمُطَفِّفِینَ﴾( )، وقال تعالى: ﴿وَأَقِیمُوا۟ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُوا۟ ٱلۡمِیزَانَ﴾( )، وما يكالُ في عرفِ الشرعِ كالزبيب والتمر والحبوب، فإن هذه معيارها الكيل، فقد قدّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم زكاةَ الزروع فيها بالوسْق، وزكاة الفطر بالصاع والمدّ، وكلها من المكيال، ومما يوزن في عرفِ الشرع الذهبُ والفضة؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكرَ في بيعها وزكاتها الوزن.
وقوله (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) التفاتٌ من الغيبة في قوله (حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى ضمير العظمة للمتكلم لله عز وجل في (نُكَلِّفُ)، فأسند خطابهم إلى نفسه رأسًا، مما يشعرُ بعظيمِ منتهِ على عباده، بالتخفيفِ عنهم ورفع الحرج، فإنّ كل ما أمر به في هذه الآيات مقيدٌ بالاستطاعة والقدرة، فمَن عجز عن شيء فهو عفوٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)( ).
(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) المعنى: أن القائل لأيّ قول مطلوبٌ منه العدل والإنصاف في قوله، وعدم التحامل والظلم أو المحاباةُ والميل، ولو عن قريبٍ من قرابته، كان القول له أو عليه، فهو مأمورٌ ألَّا تأخذه في الحقّ لومةُ لائم، كما قال تعالى: ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّٰمِینَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَاۤءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ﴾( ).
فالعدل في (فَاعْدِلُوا) الإنصاف والصدق فيما يقوله المرء عن نفسِهِ وعن الآخرينَ، ليس فقط في الشهادةِ والحكم، بلْ في كلِّ قول، في الأمرِ والنهي، والنصح، ونقل الأخبار، والصلح، والتعديل والتجريح، والثناء والمدح، والكلام عن الصديق والعدوّ والخصم، والواو في (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) للحال، و(لو) حرف وصل للمبالغة، لا تحتاج إلى جواب.
(وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) العهد: العقد والميثاق، ومنه الإيمان، وأضيف العهدُ إلى الله لأن الله هو الذي أمر بالوفاء به، سواء كان من الإيمان، أو كان من العهود والمواثيق التي يعقدها الناس فيما بينهم، أو كانت عهودًا مع الله، وذلك بالوفاء بما أمر الله تعالى به من تكاليف، فإن التكاليف – وعلى رأسها التوحيد – كلها عهدٌ وميثاق بين العبد وربه، وقد كانت الوفود تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتبايعه، وتعطيه العهود على الإيمان والتوحيد.
وقدم الجار والمجرور في قوله (وَبِعَهْدِ اللهِ) على الفعل (أَوْفُوا) للاهتمام بالعهد والحرص على حفظه؛ لأنه المقصود بالأمر، والإشارة في (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) إلى المذكور من الأمر بالعدل في القول وما عطف عليه.
و(وَصَّاكُمْ بِهِ) أي أمركم بذلك أمرا مؤكدا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لأجل أن تبلغكم الذكرى وتنتفعوا بها.
ولأن المنهيات في الآية المتقدمة في قوله (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) وما عطف عليه متفشية بين العرب وعسر تخلصهم منها ختمت بقوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) توجيها لهم لإعمال عقولهم لينتهوا عن ضلالهم.
بخلاف هذه الآيات لما كانت متضمنة بعض الفضائل التي يعرفونها في قوله (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا)، ختمت الآية بقوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لأجل تذكيرهم بالثبات على ما هُم عليه.
(وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ)(153)
جملة (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) عطف على قوله (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) أي لا تشركوا بالله شيئا وهذا الإسلام الذي جاءكم به النبي صلى الله عليه وسلم هو صراط الله المستقيم الذي لا اعوجاج فيه الموصل إلى مرضاة الله فالزموه، وإيَّاكم وبُنيَّات الطريق.
والمعنى: لا تتبعوا بنيات الطريق، وهي الطرق المتفرقة التي ليس عليها برهان ولا دليل، فتبعدكم صحبتكم لها عن طريق الله، الموصلة إلى نجاتكم من أقصر طريق وأوضحه، ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا خَطًّا، وَخَطَّهُ لَنَا عَاصِمٌ – أحدُ رواة الحديث – فَقَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللهِ، ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِ الْخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ: هَذَا السَّبِيلُ، وَهَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ؛ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} لِلْخَطِّ الْأَوَّلِ، {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} لِلْخُطُوطِ {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ})( ).
فالإشارة بقوله (هَذَا صِرَاطِي) إلى الإسلام، والضمير في صِرَاطِي عائد إلى الله تعالى.
أو الإشارة إلى ما تقدّم من أوّل السورة، من إثبات التوحيد والرسالة بالبراهين والحجج الواضحة، والجملة (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي) واقعة موقع التعليل للفعل بعدها (فَاتَّبِعُوهُ) المقترن بفاء التفريع، أي فاتبعوه لأنه الصراط المستقيم، وجملة (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) عطف على قوله (فَاتَّبِعُوهُ) والسبل: الطرق، وهي السبل المتفرقة التي خطها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود، عن يمين الخط المستقيم وعن شماله، بدليل قوله (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) وتلك هي بنيات الطريق، التي ليس عليها دليل ولا برهان، ومن سلكها أضلته عن الصراط المستقيم.
والباء في قوله (بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) للمصاحبة، والضمير في سبيله عائد إلى الله،
والإشارة في (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) إلى الصراط المستقيم، الذي هو الإسلام و(وَصَّاكُمْ) أمركم به وأرشدكم إليه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لأجل أن تبلغوا باتباع الصراط المستقيم مخافة الله، والوقوف عند أمره ونهيه، الذي هو جِماع التقوى.