طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (352)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (352)

[سورة الأنعام:154-157] (ثُمَّ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ يُؤۡمِنُونَ)(154)
أي آتَيْنَا موسى الكتاب متممًا ومكملًا للنعمة على بني إسرائيل، والنعمة التي جاءهم بها الكتاب حاصلة لكل من اتبعه وأحسن القيام به، ويدخل فيه كل محسن.
فالكتاب هو التوراة، و(تَمَامًا) منصوب على الحال، و(علَى الَّذِي أَحسَن) أي جزاءً على وفاء المؤمنين وإحسان المحسنين، أو جزاءً لموسى في الآخرة على إحسانه في الدنيا، و(تفصيلًا) أي بيانًا مفصلًا لكل شيء، وهو على حذف الصفة، بمعنى: مفصلا لكل شيء مهم يحتاجونه، أو أن الكل في قوله (لِكُلِّ شَيْءٍ) مراد به الكثرة، كما في قوله: ﴿وَلَئِنۡ أَتَیۡتَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَٰبَ ‌بِكُلِّ ‌ءَایَةࣲ مَّا تَبِعُوا۟ قِبۡلَتَكَ﴾( ).
وعطف (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) على ما قبله، والشأن في العطف بـ(ثُمَّ) أن يكون ما بعدها متأخرًا عما قبلها في الزمان، أو مرتفعًا عليه في الرتبة، والذي قبلها في الآية من قوله (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) هو التوحيد وأحكام الإسلام، التي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغها وتلاوتها على المشركين، فيشكل أن يكون (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) متأخرًا زمانا عما ذكر قبله، أو أرفع رتبة.
فمن المفسرين من ذهب إلى أنها عُطفت على جملة (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فما ذكر من التوحيد في قوله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) ليس متأخرا على التوراة، فإن وصاية الله تعالى به متقدمة من يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، في قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ ‌أَلَسۡتُ ‌بِرَبِّكُمۡ﴾( )، ويشهد له ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “هذه الآيات ـ أي الوصايا بالتوحيد ـ هي المحكماتُ، اجتمعت عليها شرائعُ الخلق، ولم تنسخْ قطّ في ملة”( )، بمعنى أنها مقررة قديمًا.
ومنهم مَن جعلَ (ثُمّ) بمعنى الواو، منسلخة عن الترتيب والتراخي.
وقوله (وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي أنزلنا الكتاب على بني إسرائيل هداية لهم، فقد نسوا ما ذُكّروا به، ولم يبقوا على استقامة أسلافهم؛ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، بدلوا وغيروا من بعدهم، فكانت بعثة موسى عليه السلام لهم بالتوراة رحمةً بهم (لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) لأجل أن يرجعوا إلى ما كان عليه أسلافهم ممن تبع إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الإيمان الصادق بلقاء الله، وبالبعث والحساب، وفيه تعريض بالمشركين الذين ينكرون البعث.
(وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ أَن تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلۡكِتَٰبُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيۡنِ مِن قَبۡلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمۡ لَغَٰفِلِينَ أَوۡ تَقُولُواْ لَوۡ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا ٱلۡكِتَٰبُ لَكُنَّآ أَهۡدَىٰ مِنۡهُمۡۚ فَقَدۡ جَآءَكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞۚ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَصَدَفَ عَنۡهَاۗ سَنَجۡزِي ٱلَّذِينَ يَصۡدِفُونَ عَنۡ ءَايَٰتِنَا سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصۡدِفُونَ)(155-157)
جملة (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) عطف على (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) والإشارة في قوله (وَهَذَا كِتَابٌ) إلى القرآن، و(أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) صفتان للقرآن؛ لأن كونه منزلًا ومباركًا مما يُرغّب في اتباعه، والفاء في (فَاتَّبِعُوهُ) للتفريع، فالأمر باتباعه متفرع عن وصفه بما ذكر، واتباعه الإيمان والعمل به
(وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) اتباعه يوصلكم إلى التقوى ومخافة الله، لأجل أن تشملكم رحمته.
وجملة (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا) متعلقة بقوله (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) على تقدير لام التعليل المحذوفة، أي وهذا كتاب أنزلناه عليكم مباركٌ لئلَّا تقولوا نحن أمّيون، ليس عندنا كتاب، وإنما أنزل الكتَاب على طائفتين من قبلنا، وهم اليهود والنصارى، ونحن حرمنا من الكتاب، ولئلا تقولوا أيضا (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ) أي إنّ كتُب اليهود والنصارى كنّا غافلين عن مدارستها وتعلمها، وحرمنا منها بسبب أميتنا، فنزول القرآن عليكم قطعٌ لجميع معاذيركم، التي قد تعتذرون بها على كفركم.
و(إنْ) في (وإنْ كنّا) مخففةٌ من الثقيلة، واسمها ضمير تقديره: إنه، أي الحالُ والشأن، وقوله (لَغَافِلِينَ) خبر كان( )، والدراسة تكرير القراءة بتأنٍّ وتأمل، لأجْل الحفظ والفهم، ومعنى (لَغَافِلِينَ) لفي ذهول وغفلة عن مدارسة أهل الكتاب في كتبهم.
وقوله (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ) اعتذار آخر معطوف على الاعتذار الأول، ربما يعذرُ به المشركون عندما ينزل بهم العذاب، أي لئلا تقولوا في عذركم لو لم نكن أميين بأن (أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ) كما أنزل على اليهود والنصارى لكنا أحسن منهم في الهداية وأشد تمكنا، وأقرب منهم للإيمان، إذ لا تنقصنا نباهةٌ ولا فطنةٌ.
والفاء في قوله (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) للفصيحة، أفصحت عن كلام محذوف، أي: إذا كُنتُم قلتم ما قلتم من الاعتذار بعدم نزول الكتاب إليكم، كما أنزل على اليهود والنصارى (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) كتاب في غاية البيان والوضوح، بكلام معجز، وهذا الكلام المعجز الذي أنتم أهلُ البلاغة والفصاحة أقدر الناس على فهمه، فيه مع الشريعة والهداية رحمة وتيسير، فما الذي يمنعكم بعد نزوله من الإيمان، وإذ لم يبق لكم عذرٌ فليس إلا العناد، وهذا ردٌّ على ما قد يعتذرون به عن كفرهم، لقطع حجتهم المتوقعة.
ومَن في قوله (فَمَنْ أَظْلَمُ) أداة استفهام نكرة موصوفة، ولأن الاستفهام فيها للنفي جعلها منفية، والنكرة في سياق النفي تدلّ على العموم، بمعنى: لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، والتكذيب بآيات الله معناه عدم الإيمان بالقرآن، وصدف عنها: أعرض هو عنها، وجَعلَ غيرَه يُعرض عنها، وسوء العذاب: أشدّه، مِن إضافة الصفة للموصوف، وكان الذين يصدفون ويعرضون عن القرآن ويكذبونه أشدَّ عذابًا لأنهم لم يكتفوا بإعراضهم وكفرهم في أنفسهم، بل أضافوا إلى ذلك منع غيرهم من الإيمان، فظلمهم مضاعف، قال تعالى: ﴿ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ‌وَصَدُّوا۟ ‌عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ زِدۡنَٰهُمۡ عَذَابࣰا فَوۡقَ ٱلۡعَذَابِ بِمَا كَانُوا۟ یُفۡسِدُونَ﴾( ).
ولا تعارض بين قوله هنا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) وقوله في مواضع أخر: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا)، ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ ‌مَسَٰجِدَ ‌ٱللَّهِ أَن یُذۡكَرَ فِیهَا ٱسۡمُهُ﴾( )؛ لأن المعنى في هذه الآية أن ظلم مَن كذّب وجعلَ غيره يكذّبُ أشدّ من ظلم غيره، لا أنه أظلمُ الناس، وكذا مَن افترى الكذب أو منع مساجد الله، ظلمُه أشدّ من ظلم غيره، وهكذا لا تعارض بينها، وتقدّم الكلام على نظير هذه الآية في قوله: ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ ‌مَسَٰجِدَ ‌ٱللَّهِ أَن یُذۡكَرَ فِیهَا ٱسۡمُهُ﴾( ) في البقرة وفي غير موضع.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق