طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (354)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (354)

[سورة الأنعام:160-164] (مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ)(160)
بعد التخويف والنِّذارة للمشركين، ولمن اختلفوا في دينهم وكانوا شيعا، ذكر الله البشارة لمن جاءه بالطاعات والأعمال الصالحة فقال (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، والباء في قوله (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ) للمصاحبة، أي مَن جاء يومَ القيامة مصاحبًا للحسناتِ، فله البِشارةُ، فإن الحسنة الواحدة يعطى عليها عشر أمثالها، كرمًا من الله وفضلًا.
بل دلت الأدلة على أن العطاء أوسع من ذلك وأكبر، فمن الحسنات ما يُضاعفُ إلى سبعِمائة، كما في الإنفاق في أبواب الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ ‌سَبۡعَ ‌سَنَابِلَ فِی كُلِّ سُنۢبُلَةࣲ مِّا۟ئَةُ حَبَّةࣲۗ وَٱللَّهُ یُضَٰعِفُ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیمٌ﴾( )، وهناك ما هو أزيد وأكثرُ، كما قال تعالى في الصبر: ﴿إِنَّمَا یُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم ‌بِغَیۡرِ ‌حِسَابࣲ﴾( )، وكما قال في الحديث القدسي في الصوم: (إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)( ).
وفِي الصحيح: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً)( ).
وذُكِّر العدد (عَشْرُ) مراعاةً للمعنى في مميزهِ وهو (أَمْثَالِهَا) الذي معناه الحسنات، لا مراعاةً للفظه وهو (أمثال).
ثم ذكر الله أن من قدِمَ على ربه مصحوبًا بالسيئات، فإنه لا يجازيه بالسيئة إلَّا مثلَها، عدلًا منه ولطفًا، وجاء الجزاء على السيئة بمثلها بأسلوب النفيِ والاستثناءِ (فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) الذي يفيد الحصر، ولم يقل: ومَن جاء بالسيئة فعليه مثلُها، وذلك للتنصيص على نفي الزيادةِ في العقوبة، على وجه غير قابل للاحتمالِ، إظهارًا للعدل والرحمة بالعبادِ، فإنّ العدل رحمة وأيّ رحمة، وهو سبحانه يفعل ذلك تفضلًا، فلا يجب عليه شيءٌ، فله أن يعذبَ المطيعَ، ويعفوَ عن العاصي.
ومن تمامِ رحمته أنّ مَن همّ بالسيئة ولم يعملها، لم تكتب عنه سيئة، بل تكتب له حسنة، بخلاف الحسنة؛ فإنها تكتب له بمجرد الهمِّ بها، كما تقدم في الصحيح عن النبي ﷺ، والضمير في (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) يعود إلى أصحاب السيئات، لأنهم آخر مذكور، فهم لا يظلمون بمضاعفة السيئات عليهم، فلا يجزونَ أكثر مما كانوا يعملون من السيئات.
(قُلۡ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا مِّلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ)(161)
بعد أن حاج الله المشركين وتوعّدهم، وتوعد الذين فرّقوا دينهم، وبشرَ مَن عمل الصالحات بمضاعفة الحسناتِ، أمرَ الله النبي ﷺ أن يصوّر لهم الدين الحقّ، الذي هو عليه؛ ليكون مرجعهم إذا اختلفوا.
فأمره أن يقول (إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فبين أن الوصولَ إلى الدين لا يكونُ إلا بتوفيق من الله وهداية، وقال (إِنَّنِي هَدَانِي) ليدل على أنه يستوي في ذلك الأنبياء وغيرهم، فلا توفيق لسائر الخلق إلا بهداية الله، والصراط أصله الطريقُ الواسعُ، وهو هنا الدين، والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه، لا في معناه ولا في مبناه.
و(دِينًا) منصوب على الحال مِن صراط، لتعريفه بالوصفِ، أو عطف بيان لصراط؛ لأنه في محلّ نصبٍ على المفعولية، و(قِيمًا) مبالغةٌ من قائم، أي معتدلًا، لا عوج فيه، وقَائِما أيضًا في شريعته بمصالح الخلق وملبيًا لحاجتهم، ومن هذا المعنى في (قِيَمًا) القيُّوم من أسماء الله تعالى بمعنى القائم بأمر خلقه.
و(مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) عطف بيان للصراط، وهي الدين، والفرق بينها وبين الدين أن الملة لا تضاف إلَّا إلى النبيِّ الذي أتى بها، كما في (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) و﴿‌مِلَّةَ ‌ءَابَاۤءِیۤ﴾( )، ولا يقال: ملة الله، ويقال: دين الله، ولا تطلق الملة إلا على كلِّ الدين، فلا يقال: الصلاة ملة، ويقال: الصلاة دين الله، وفعلها مِن أمَلّ الكتاب على الكاتب ليُكتب، ويقال أمللت الكتاب فهو مملول.
و(حَنِيفًا) حال، وهي من الحنف وهو الميل، لميلها عن الباطل، ومنه سُميت الحنيفية لملة إبراهيم  لاستقامتها وميلها عن الباطل، وكون الإسلام الذي هدى الله إليه نبيه ملة إبراهيم ، معناه أصل الدين الذي دعا إليه إبراهيم، وهو التوحيد، ومكارم الأخلاق، وخصال الفطرة، ونحو ذلك، يدل عليه قوله (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وما كان إبراهيم  من المشركين، فدين الأنبياء في التوحيد ونفي الشرك واحد، قال تعالى: ﴿‌شَرَعَ ‌لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِ إِبۡرَٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤ أَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِیهِ﴾( ).
(قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ)(162-163)
بعد ذكر ما أمتن الله تعالى به على نبيه ﷺ من الهداية إلى الدين القويم، ذكر امتنانه عليه بالإخلاص التامّ لهذا الدين، في كل وقته وحينهِ في المحيا والممات، فأمره أن يقول (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، والنسك في (نُسُكِي) العبادة، ويسمى العابد ناسكا، فعطف نسكي على صلاتي من عطف العامّ على الخاص.
(وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) كناية على أن عمله وحياته ﷺ كلها لله، وتعلقه كله به في كل أوقاته، وفي كل ما يصدر عنه، حتى في لحظات عمره الأخيرة التي يفارق فيها الدنيا، مما يعد المحتظر فيها في حكم الأموات، فقوله (وَمَمَاتِي) أي ما قارب الممات، واللام في قوله (لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) للاختصاص والملك، أي: جميع أعمالي مخصوصة ومملوكة لله وحده، أو اللام للتعليل، فأعماله لأجل الله لا لأجل غيره، كما يفعل من يسجدون للأصنام، أو يراؤون بأعمالهم.
والإشارة في قوله (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) إلى ما تقدّم من إخلاص الصلاة والنسك والعبادة لله وحده، فبذلك أمره الله، وقد حقّق النبي ﷺ أمر ربه على أكمل وجه، فسبق من قبله ومن بعده، وبذلك كان أفضل خلقه، لا أحد يبلغ مبلغه في تعلقه بربه وإسلام وجهه له ظاهرًا وباطنًا، فالأولية في قوله (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أولية منزلة، وليست أولية في الوجود، فإن الإسلام دين كل الأنبياء قبله.
(قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِي رَبّٗا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيۡءٖۚ وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ)(164)
بعد ما ذكر النبي ﷺ إخلاصه لربه، وأن حياته كلها لله، أتبعه بما يستوجب شكر تلك النعمة عليه، فهَل مَن وفقه ربُّه تعالى لما ذكر من الإخلاص لله في حياته ومماته يطلب ربًّا غيرَه؟! فقال أفغير الله أبتغي ربا.
والاستفهام في (أَغَيْرَ اللهِ) للإنكار على المشركين، الذين كانوا لا يترددون من حين لآخر في دعوة النبي ﷺ إلى عبادة آلهتهم، فردّ عليهم: كيف أبتغي ربا غير الله، والحال أنه رب كلِّ شيء موجود في الكون، وكونه ربّ كلّ شيء موجود يستلزم إبطال كلّ ربوبية لغيره، فلم يحتج أن يقول لهم: وهو ربي، لأن (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) كما يدلّ على الربوبية لله يستلزم بطلان معتقدهم في آلهتهم، فجملة (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) حالية، واقعة موقع التعليل لما قبلها، أي: لا أبتغي ربًّا غيره؛ لأنّه رب كل موجود.
وقوله (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) رد آخر على المشركين، كانوا يقولون للنبي ﷺ: لو اتبعت آلهتنا فسنكفيك كل تبعة عليك، فأخبرهم الله تعالى بحكمه العدل، وبالقانون الفصل، الذي جرى مجرى المَثل وهو (لَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) أي أنتم لا تقدرون أن تَكْفوه تبعة عمله، فكل نفس تبعتها عليها، خيرها لها، وإثمها عليها، ففي الآية احتباك، تقديرٌ حُذف من الأول لدلالة الثاني عليه أي: لا تكسب نفس من خير إلا لها، ولا تكتسب من إثم إلا عليها.
وجملة (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) تأكيدٌ لما قبلها، وتزر: تحمل، والوزر: الحمل، أي لا يحمل أحد عن أحد شيئًا ﴿لَهَا ‌مَا ‌كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ﴾( )، ﴿وَإِن ‌تَدۡعُ ‌مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا یُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَیۡءࣱ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۤ﴾( ).
وقوله (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وعيدٌ للمشركين، ولكل من فرقوا دينهم واختلفوا عليه الاختلاف المذموم، على نحو ما تقدّم في قوله (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وعيد بأن مرجعهم جميعًا في القيامة إلى الله، وسيجازي كلا بما يستحق؛ لأن إنباءهم بما عملوا وإخبارهم به إنما هو للحساب والعقاب.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق