طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (355)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (355)

[سورة الأنعام:165-سورة الأعراف:3] (وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ)(165)
الخطاب في قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ) للمشركين، وخلائف جمع خليفة، أي جعلكم خلائف يخلف بعضكم بعضا، أو جعلكم مستخلفين في الأرض لتعميرها بعبادة الله وإقامة الحقّ ودين الإسلام.
(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) بالنعم التي أنعمها عليكم، لتتنافسوا في الشكر عليها بما منحكم من التفاوت فيها، وتفاضل بعضكم على بعض، وقوله (لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) أي ليختبر الشاكر منكم للنعم والجاحد لها، فيظهر ما علمه منكم في الأزل مِن شُكرٍ وكُفر، وليقيم الحجة على من اختار لنفسه الجحود والنكران.
و(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ) أي عقابه لا يتأخر عن المجرمين والمكذبين، فسرعة العقاب تتطلب أن هناك سبباً للعقاب وهو ذنب سابق عن وقوع الحساب، يسارَع إلى عقابه، وليس عقاباً ناشئًا ابتداءً من لا شيء، وهذا بخلاف المغفرة والرحمة في قوله (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فإن الرحمة والمغفرة مُبتدأة من الله دون سبب دعا إليها كما في (سَريعُ العِقابِ)، وأُكدت الرحمة بثلاثة مؤكدات؛ إن واللام والتوكيد اللفظي في قوله (غَفُورٌ رَحِيمٌ) بخلاف العقاب في قوله (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ) فقد أُكّد بمؤكد واحدٍ، وهو في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي: (إِنَّ اللهَ لَمَّا قَضَى الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)( ).
وهذا خاتمة سورة الأنعام، فالحمد لله على التمام والكرم والإنعام.

7- سورة الأعراف
سميت السورة بالأعراف لذكر لفظ الأعراف فيها في قوله (‌وَبَيْنَهُمَا ‌حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ)، وسميت بذلك أيضًا في حديث عائشة: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ)( )، وكذلك في حديث زيد بن ثابت، أنه قال لمروان بن الحكم: (مَا لِي أَرَاكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ السُّوَرِ؟ قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِيهَا بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ. قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ مَا طُولَى الطُّولَيَيْن؟ قَالَ: الْأَعْرَافُ)( ).
وسميت طولى الطوليين؛ لأنها أطول من الأنعام قبلها، التي هي إحدى السبع الطوال، والسبع الطوال هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف وبراءة.
وترتيبها في النزول التاسعة والثلاثون عند جابر بن زيد عن ابن عباس، وآيها 206، وقيل غير ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم
(‌الٓمٓصٓ كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ مِّنۡهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ)(1-3)
قوله (ألمص) مرَّ الكلامُ على مثله في الحروفِ المقطعة في أول السور، أوّلَ سورة البقرة، وقوله (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي: كتاب عظيم أنزله الله إليك وهو القرآن، بلّغهُ، ولا يكن في صدرك حرجٌ من تبليغه بسبب تكذيب الكافرين، ووصفِه بأنه سحرٌ وأساطير الأولين، بلِّغه لأجل إنذارِ الكافرين وتخويفِهم عاقبةَ أمرهم، ولتذكير المؤمنين، وتبشيرهم بما أعده الله تعالى لهم.
وذكر متعلق (وَذِكْرَى) في قوله (وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) تنويهًا بشأن المؤمنين، دون متَعلّق (لِتنذِرَ به) المُقدر في الكلام وهو (الكافرين).
فقوله (كِتَابٌ) مبتدأ وخبره (أُنْزِلَ إِلَيْكَ)، وتنكير (كِتَابٌ) للتعظيم، كتابٌ عظيمٌ أنزل إليك، وكون التنكير فيها للتعظيم هو ما سوغ الابتداء بالنكرة.
والإخبارُ عن الكتاب ووصفه بأنه أنزل إليك؛ لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولإغاظة المشركين الذين قالوا عنه سحرٌ وأساطير، فتحداهم الله به وأعجزهم.
وجملة (فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ) معترِضة بين (أُنزِلَ إِلَيْكَ) وبين متعلِّقها (لِتُنذِرَ بِهِ) فهذا الكتاب العظيم أنزل إليك لتنذر به، فلا يكن في صدرك حرجٌ منه.
والجملة المعترِضة تقترن تارة بالفاء، كما هنا، وتارة بالواو، وهي هنا عاطفة على فعل مقدر، والتقدير: كتاب عظيم أُنزل إليك بلِّغه فلا يكن في صدرك حرجٌ منه، وبذلك يصير من عطف النهي على الأمر، إنشاء على الإنشاء.
وبدون التقدير يكون (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ) من عطف النهي على الخبر وهو كتابٌ أُنزل إليك، فتقدير فعل (بلغه) أولى للمجانسة بين المعطوف والمعطوف عليه في الإنشاء.
والحرج: الضيق والحزن، وتوجَّه النهي في الآية؛ لنفي وجود مكان الحرج داخل الصدر، وهو أبلغ من النهي عن الحرج ذاته، كما تقول لمن تريد نهيه عن الحضور: لا أَريَنَّكَ هنا، فإنه أشد في زجره عن الإتيان من قولك: لا تأتِ هنا.
ومِن في قوله (منْهُ) للابتداء، أي لا يكن في صدرك حرج ناشئ من القرآن، بسبب تبليغه؛ مخافة تكذيبهم وعدائهم لك، كما قال تعالى: ﴿‌فَلَعَلَّكَ تَارِكُۢ بَعۡضَ مَا یُوحَىٰۤ إِلَیۡكَ وَضَاۤئِقُۢ بِهِۦ صَدۡرُكَ﴾( ).
واللام في (لِتُنذِرَ بِهِ) للتعليل، والخطاب في قوله (اتَّبِعُواْ مآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) مُوجَّهٌ للفريقين؛ المشركين المشار إليهم بقوله (لِتُنذِرَ بِهِ) وللمؤمنين في قوله (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).
و(مآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) يطلق على خصوص القرآن ويطلق على الوحي كله، فيعم الكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿‌وَمَا ‌یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیࣱ یُوحَىٰ﴾( )، واتباع ما أنزل إنْ كان لغير المسلمين؛ فمعناه الإيمان والإذعان وقَبول الدين، وإن كان للمسلمين؛ فمعناه طاعة ما أنزل من الوحي بالتقيد بأمره ونهيه.
والضمير في (مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) يصح عوده على (رَبِّكُمْ) أي: لا تتخذوا من غير ربكم أولياء تعبدونهم، وتتناصرون بهم، ويصح عوده على الكتاب، أي: لا تعدلوا عن الوحي الذي أنزل إليكم إلى غيره من الكتب الأخرى المنسوخة والمحرفة، ولأهمية اتباع الدين والتقيد بالوحي أمر باتباعه، ثم نهي عن اتباع غيره، ممن يتخذونهم أولياء من دون الله، من الشياطين والكهنة.
والأولياء: جمع ولي، وأصله المولى والناصر والناصح، وهي معبوداتهم التي يشركونها مع الله في العبادة، ويلتجؤون إليها، ويُقربون لها القرابين، ويقولون إنها شفعاؤنا إلى الله، ومن أشرك مع الله غيره لا يسمّى عابدا لله بل يكون تاركا له عابدا غيره، ولذلك قال: (مِن دُونِه) فدون معناه غير، أي عَبَدوا غير الله.
و(مَا) في قوله (مَّا تَذَكَّرُونَ) إن جعلت مصدرية، فـ(قَلِيلًا) نعتٌ لمصدر محذوف، أي تذَّكرون تذكرًا قليلًا، وإن جعلت (ما) صلة مؤكدة لمعنى القلة، صح نصب (قليلًا) بـ(تَذَكَّرُونَ)، والقلة يصح أن تكون مستعملة في النفي، بمعنى أنهم لا يتذكرون أصلاً، كما في قوله تعالى: ﴿‌قَلِیلࣰا ‌مَّا تُؤۡمِنُونَ﴾( )، فالإيمان لا يتجزأ، ويصح حمل القلة هنا على حقيقتها، بمعنى أن أكثرهم لا ينتفع بالتذكير بالقرآن، وقليل منهم مَن ينتفعُ ويهتدي.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق