المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث
المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (356)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (356)
[سورة الأعراف: 4-9] (وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ)(4-5)جملة (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ) عطف على قوله (وَلا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ) والمعنى: لا تعبدوا ولا تتبعوا ما زعمتموه آلهة من دون الله، فيصيبكم ما حلّ بأمم كثيرة قبلكم، وقرًى أهلكها الله فعَلت فِعلَكم، فجاءها بأس الله على غير انتظار ولا تحسّب، منهم من بيّته العذاب ليلًا في نومهم كقوم لوط، ومنهم من فاجأهم عذاب الله وقت القيلولة ظهرًا كقوم شعيب، ومنهم من حل بهم ضحًى أول النهارِ وهم لاهُون، وأشدُّ العذاب وقعًا أنْ يكون في وقتِ غفلةٍ يُقصدُ للراحة أو وقتِ لهو، ويظنُّ صاحبه أنه آمِن، وهو تهديد للمشركين بمثله.
فـ(كم) خبرية مبتدأٌ، خبره (أَهْلَكْنَاهَا) وهي اسم مبهم تدل على تكثير ما دخلت عليه، وما دخلت عليه هو الذي يفسر إبهامها.
و(أَهْلَكْنَاهَا) أردنا إهلاكها، والمعنى إهلاكُ أهلها، وجعل الإهلاك للقرية ذاتها للدلالة على شمول الهلاكِ الذي لا يُبقي منها أحدًا.
والفاء في قوله (فَجَآءَهَا بَأْسُنَا) للتفصيل، فتفصيل كيفية إهلاكهم أنْ جاءَهم بأسنا وهم نائمون، والبأس: العذاب، وهو هنا عَذَاب الدنيا، و(بَيَاتًا) منصوبٌ على الظرفية أي في وقت الليل، أو منصوب على الحال، حال كونهم بائتين بالليل، (أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ) أي منتصف النهار وقت القيلولة، وضمير (هُمْ) عائدٌ إلى أهل القرية، و(أَوْ) لتنويع الأوقات التي يأتي فيها العذاب.
وجملة: (أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ) حاليةٌ، وقد أغنت (أَوْ) العاطفة عن واو الحال؛ حتى لا يجتمع حرفا عطف في كلمة، ولولا ذلك لما حسن ترك واو الحال في مثله.
وقوله:(فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا) أي حين رَأَوا العذابَ لم يكن لهم دعاءٌ ولا استغاثة، أو لم يكن لهم مقالٌ إلا الندم والاعتراف بذنبهم وما كانوا عليه من العناد والشرك بالله، وتكذيبِ الآياتِ، يقولون ذلك تحسرًا، ولومًا لأنفسهم، وتعاتباً فيما بينهم على التفريطِ، ولاتَ ساعةَ مَندم.
فالدعوى في قوله: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ) تأتي بمعنى الادّعاء والقول، وبمعنى الدعاء ( )، كما قال تعالى: ﴿دَعۡوَىٰهُمۡ فِیهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ﴾( ).
وقولهم (إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) أي مشركين، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِیمࣱ﴾( )، واعترافهم بظلمهم في وقت نزول العذاب لا ينفعهم؛ لأنه إيمان المضطر.
(فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيۡهِم بِعِلۡمٖۖ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ)(6-7)
جملة (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عطف على قوله (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ) أي قسَمًا لنسألنّ الأمم التي بعثت إليها الرسل ولنَسألنّ رُسُلهم، فالرسل يُسألون كيف كانت استجابة الأمم لهم، قال تعالى: ﴿یَوۡمَ یَجۡمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَیَقُولُ مَاذَاۤ أُجِبۡتُمۡ﴾( )، والأمم يُسألون لإقامة الحجة عليهم، فيقال لهم: هل بَلَّغتكم الرسلُ؟ فيتحيرون، ولا يستطيعون جوابًا، ولذلك لم يُنتظر منهم في الآية جواب، بل أجاب سبحانه: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ).
وقَدَّم توجيه السؤال للأمم عن سؤال الرسل؛ لأن سؤال الأمم هو المقصود في إقامة الحجة على المذنبين، أما الرسل فإبلاغهم معلوم، ولا تعارض بين سؤال الأمم في هذه الآية، وعدم سؤالهم في قوله: ﴿فَیَوۡمَئِذࣲ لَّا یُسۡءَلُ عَن ذَنۢبِهِ إِنسࣱ وَلَا جَاۤنࣱّ﴾( )، وقوله: ﴿وَلَا یُسۡءَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾( )؛ لأن السؤال المثبتَ هو سؤالُ التقريعِ وقت الحساب، فهذا واقع، والسؤال المنفيَّ الذي لايقع؛ سؤالُ الاستعلامِ و الإعذارِ، الواقع وقتَ وقوع العذاب بهم، فلا تعارضَ.
فاللام في: (فَلَنَسْأَلَنَّ) للقسم، والنون للتأكيد، وهذا السؤال واقع لهم في المحشر، وأُكدت الجملة باللام والنون؛ لأنها في معرض تخويف المكذبين بأنهم سيسألون حتماً في القيامة عن كفرهم.
و (لنَقُصَّنَّ) من القصص، وهو ذكر الأخبار وحكايتها، أي لَنخبرنّهم بما كانوا عليه من خير وشرٍّ وإيمانٍ وكفرٍ وبكلّ أعمالهم بخبرٍ حالةَ كونه مصحوبًا بعلم واسع من العليم الخبير، الذي قال عن نفسه: ﴿وَلَا یُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِیرࣲ﴾( ).
فما كنا غائبين عن العلم بأحوالهم، فعِلمه سبحانه علم الحاضر، المشاهد لأفعالهم، السامع لكلامهم، لا علم الغائب الذي يعلم ما يشاهده، ويغيبُ عن علمِه ما يغيبُ عنه.
فقوله (بِعِلْمٍ) في موضع الحال، والباء للملابسة، والتنكير في (عِلْمٍ) للتعظيم، وجملة: (وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ) مؤكِّدةٌ لما قبلها.
(وَٱلۡوَزۡنُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّ فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَظۡلِمُونَ)(8-9)
جملة (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) معطوفةٌ على (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) وما بعدها؛ لأن ما يترتب على سؤالهم هو إظهار حسناتهم وسيئاتهم، فذكر في هذه الآية ـ تتميمًا للعدل ـ أن هناك وزنًا لهذه الأعمال، وزن بالقسطاسِ حقّ وعدل، غايةً في استيفاء الحقوق، ليس فيه حيفٌ ولا غبن.
والوزن أصله وضع ثقل معلوم المقدار في إحدى كفتي الميزان، ووضع ما يراد معرفة قدره في الكفة الأخرى، وهو هنا وضع الأعمال الصالحة والحسنات في كفة، ووضع السيئات في الكفة الأخرى، فكل أحد في القيامة له ميزان، فمَن رجحت وثقُلت كفةُ حسناته كان من الناجين، ومَن ثقلت كفة سيئاته وطاشت كفة حسناته كان من الخاسرين.
وقد ورد في السنّة أن صحائف الأعمال توزن حقيقةً بميزان له لسانٌ وكفتانِ، كما في حديث البطاقة، وفيه: (يُنشر له تسعةٌ وتسعونَ سجلًّا، ثم يؤتى ببطاقةٍ فيها: لا إله إلا الله، فطاشتِ السجلاتُ، ورجحتِ البطاقة)( ).
وقوله (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ) الوزنُ مبتدأٌ، ويومئذٍ خبرٌ، والتنوين للعوض عن المضاف إليه، أي: والوزن يوم وزنِ السيئات والحسنات عند الحساب هو الوزن الحق، الذي لا ظلم فيه ولا بخس، فالحقُّ صفةٌ للوزن وهو العدل الذي لا ميل فيه ولا غبن، و(مَن) في (فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) اسم موصول، ليس لأحد بعينه، فيطلق على كلّ أحد، ولفظُه مفرد، ولذا أعيد إليه الضمير في (مَوَازِينُهُ) مفردًا، مراعاةً للفظِه، وثَقُلَتْ: من الثِّقَل، وهو الرجحان، و(مَوازِينُهُ) موزوناته من الحسنات والسيئات، والفاء في: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تفسيرية، تفسر وتبين أن المفلحين والناجين هم من ثَقُلَتْ مَوازِينُهُم، والإشارة إليهم بالبعيد (أولئك) لعلو منزلتهم، وضمير الفصل هُم للحصر، فأولئك هم الناجون حصريا لا غيرهم، وأعيد ضمير (هم) إلى (من) الموصولة جمعاً مراعاة للمعنى، ومن خفّت و طاشت كفة موزوناته من الحسنات، وثقلت كفة سيئاته (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ).
أي: فهم خسروا أنفسهم بسبب كفرهم وتكذيبهم بالآيات.
وأشير إليهم بالبعيد (أُولَئِكَ) ليدلّ على أن خسرانهم بلغ شأوًا بعيدًا، لا يمكنهم تداركه، فمن خسر رأس ماله في تجارة أو غيرها مثلًا قد يعوضه، أما خسرانهم فهو أعظم من أن يعوّض، لأنهم خسروا أعز ما يملكون وهو أنفسهم، ولا تعويض عنها؛ لأنهم أوبَقُوها.
والآيات في قوله (بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) تعمّ الآيات القرآنية والكونية، وهي المعجزات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وبِآيَاتِنَا: متعلقٌ بيَظلِمُونَ.
والباء في: (بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) للسببية، و(مَا) مصدريةٌ، و(يَظْلِمُونَ) يكذّبون بالآيات، ولذلك عُدِّيت (يَظْلِمُونَ) بالباء؛ لتضمّنها معنى يجحَدون ويكذّبون، وجاء فعل (يَظْلِمُونَ) مضارعًا؛ لأنّ ظلمهم متجدّد متواصل، فخسارتهم بسببِ تماديهم على ظلمهم دونَ توبةٍ ولا ندَم.