المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (357)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (357)
[سورة الأعراف: 10-13](وَلَقَدۡ مَكَّنَّٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ)(10)
الخطاب في قوله (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) للمشركين الذين اتخذوا من دون الله أولياء في قوله (وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيآءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) لمحاجتهم، حيث أعرضوا عمَّن خلقَهم، وجعل الأرض تحت تصرفهم، ومَكَّنهم منها، فتركوه وعبدوا من دونه غيره، فجعلوا مَن لا يملك لهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، أولياء لهم وآلهة يعبدونهم ويلجؤونَ إليهم.
فـ(مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أسكنّاكم، وجعلنا لكم فيها قرارًا، وجعلناكم قادرين عليها، متمكنين من التصرف فيها بكل أنواع التصرف، تستخرجون خيراتها، وتنتفعون بما أُتيح لكم من أدواتها وثرواتها، في الصناعة والزراعة وغيرها من أنواع العيش، وتسخِّرون ذلك فيما ينفعكم ويعود عليكم بالعمارة والرفاهية.
فمعايش: جمع معيشة([1])، والمعيشة تطلق على الحياة نفسها، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُ مَعِیشَةࣰ ضَنكࣰا﴾([2])، وتطلق على ما به العيش واستمرار الحياة، فالأرض جعلها تمدكم بأسباب الحياة، من الماء والغذاء والهواء، وما تترفهون به من كمالياتها، وقَلِيلًا: منصوبٌ على الحال، و(مَا) مصدرية، وإن جعلت (مَا) صلةً لتأكيد معنى القلة، فـ(قَلِيلًا) منصوبٌ بـ(تَشْكُرُونَ).
والقلة يمكن أن تكون بمعنى النفي والعدم، أي: مع هذه النعم، فلا أحدَ من الكَفرة يشكر؛ ويمكن أن تكون بمعنى حقيقة القلة، أي أن قليلا منكم يشكر ويؤمن، وأكثركم يبقى على الضلال والكفر، من باب قوله: ﴿وَمَاۤ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِینَ﴾([3]).
(وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ)(11)
الخطاب في (وَلقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) عامٌّ لكل الناس، والمعنيّ به المشركون، والخلق: الإيجاد، والتصوير: جعل المخلوق على الصورة التي يراد إيجاده عليها، والضمير في خلقناكم وصورناكم لآدم، خلقنا وصورنا أباكم آدم، بدليل قوله بعده (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَآئِكَةِ اسْجُدُواْ لِآدَمَ) وأعيد الضمير إليه جمعا (خَلَقْنَاكُمْ)؛ لأن خلقه خلقٌ لذريته، فهو أصلهم، وهم من نسله وَذُرِّيَّتِهِ.
والمعنى: خلقنا أباكم آدم وصوّرناه، ثم قلنا للملائكة اسْجُدُوا له، وهذا أمر من الله للملائكة بالسجود لآدم، وأصلُ معنى السجود وضع الجبهة على الأرض تذلّلا للمعبود، وسجود الملائكة لآدم ليس سجود عبادة، وإنما هو سجود تحية وتبجيل، كسجود أبوي يوسف ليوسف في قوله: ﴿وَخَرُّوا۟ لَهُ سُجَّدࣰا﴾([4])، والأكثر على أن سجود الملائكة لآدم انحناءٌ وإيماء، لم يبلغوا بِه غاية السجود، ولا يعارضه قوله: ﴿فَقَعُوا۟﴾([5])، وقوله في يوسف: ﴿وَخَرُّوا۟ لَهُ سُجَّدࣰا﴾؛ لأن الجاثي على ركبتيه تحيةً يسمى خارًّا وواقعًا.
والسجود لغير الله – ولو على وجه التحية – منسوخٌ في شريعتنا، نهى عنه النبي ﷺ، وأنكره على معاذ، وقال له: (لَوْ كُنْتُ آمُر أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا) ([6])، وبه يتبين قبح ما يفعله بعض أهل الطّرق لمشايخهم، من الانحناء لهم عند اللقاء، وما جرت به عادة بعض الملوك من الرضا بذلك، لمن يفِدون إليهم عند التحية، وربما جرى عرفهم بفرضه على كل قادمٍ عليهم، كل ذلك معصيةٌ لا تحلّ، وهو من صفات الجبابرة والمتكبرين.
(فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) أطاع الملائكة أمر الله، وحيَّوا آدم بما أمرهم به ربهم، وسجدوا، لكن إبليس امتنع عن السجود، وعدم سجود إبليس لم يُكتفَ فيه بما دلّ عليه الاستثناء في قوله (إِلَّا إِبْلِيسَ) لأن الاستثناء من الإثبات نفيٌ اتفاقًا – لم يُكتف بالاستثناء- بل أُكّد بالتصريح به في قوله (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) وفِي الآية الأخرى: ﴿إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ﴾([7])؛ ليفيدَ التأكيد المذكور أن امتناعَه عن السجودِ ما كان لعجزٍ ولا عذرٍ، بل استعلاءً وتكبرًا، وقالَ (لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) ولَم يقل: ولَم يسجد؛ لما في استعمال (كان) واستعمال (مِن) في سياق النفي من الدلالة على تمكنِ الامتناع من السجود، أي: امتنع امتناعًا لا مثيل له، وهذا كما في قوله تعالى: ﴿فَأَنجَیۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِینَ﴾([8])، دلَّت (كان) على تمكنِ صفةِ بقاء امرأة لوطٍ مع الهالكين.
(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُ مِن طِينٖ)(12)
الاستفهام في (مَا مَنَعَكَ) للإنكار والتوبيخ، و(لا) في (أَلَّا تَسْجُدَ) صلة مؤكدة لما دلَّ عليه فعل الامتناع عن السجود، أي: ما منعك أن تسجد، وليست نافية؛ لأن إبليس ـ لعنه الله ـ إنما منع نفسه من السجود لا مِن عدم السجود، ومثلها في انسلاخها من النفي قوله: ﴿وَحَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَاۤ أَنَّهُمۡ لَا یَرۡجِعُونَ﴾([9])، والتقدير: أي حرام على قرية أهلكناها أنهم يرجعون.
ويمكنُ توجيه الآية على أن في الكلام فعلًا مُقدَّرًا دلَّ عليه الفعل المنفيّ، وهو ما منعَك، تقديره: ما منعكَ ودعاكَ إلى ألَّا تسجُد؟
(قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) الطين: الصَّلْصال، وهو الترابُ المختلط بالماء، وهذا الجواب من إبليس بقوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) بالاعتراضِ على أمر الله بالسجودِ لمن هو في زعمه مفضول، معصيةٌ صريحةٌ استحقَّ بها الطرد؛ لتكبرهِ وعصيان الأمر، وعَلَّل الخيرية بقوله (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) فبناها على أصلِ عنصره النار وعنصر الطين، لا على الكمالات، وما أودعه الله من الفضائل والأوصاف المحمودة الممنوحة لكل خَلق، فلم ينظر إلى تكريم الله لآدم في قوله: ﴿لِمَا خَلَقۡتُ بِیَدَیَّ﴾([10])، أي بغير واسطة، ولَا إلى قوله: ﴿وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی﴾([11])، ولا إلى أمر الملائكة بالسجود له، بعد ما تبين لهم أنه أعلم منهم، أعرض إبليس عن تلك الفضائل، ولَم يجد إلا التفاضلَ بالنار والطين.
(قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ)(13)
الهبوط: النزول من علوّ إلى سَفْل، وعندما امتنع الشيطان من السجود أُمر بالهبوط من الجنّة، وجاء الخطاب له هنا بالمفرد (اهبطْ)، وكذلك قوله فيما بعد (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا) وجاء الأمر بالهبوط بضمير الجمع مع آدم وحواء، في قوله: ﴿وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوࣱّ﴾([12])، وقوله: ﴿قُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ مِنۡهَا جَمِیعࣰا﴾([13])، فيحتمل أن يكون الأول في قوله (فَاهْبِطْ مِنْهَا) خطاب إخراج، والخطاب الثاني في قوله (اهْبِطُوا) الذي يتناول الشيطان مرةً أخرى، يكون خطاب حرمان، وضمير (مِنْهَا) يعود إلى الجنة.
وقوله (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا) تعليلٌ لأمره بالهبوط، وضمير (فِيهَا) يعود إلى الجنة، وهي مكان مقدس، لا يليق بالمتكبرين، والنفي في قوله (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا) أبلغُ من النفي في قوله: (لا تتكبرْ فيها)؛ لأن الأسلوبَ الأول يدلُّ على أن الأمر مبرمٌ ومنقضٍ، ألَّا يكون للمتكبر محلٌّ في الجنة، بخلاف مجردِ النهي عن التكبر فيها.
وقوله (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) تأكيدٌ لقوله (اهْبِطْ مِنْهَا) و(إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) تعليلٌ لإخراجه، والصاغرين جمع صاغر: الذليلُ الحقير، وهذا هو جزاء المتكبرين؛ الصَّغارُ والمذلة، وهذه الآية أصلٌ في إخراج المفسدين من الجهة التي هم بها، إذا خُشي منهم إفسادُ الناس، كان مالك يقول: (لَا تُحْدِثُوا بِدْعَةً فِي بَلَدِنَا)، وتقدّم الكلام على نظير هذه الآية في قوله: ﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰۤئِكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِءَادَمَ﴾([14]) في البقرة.
[1]) بقيت الياء في الجمع (معايش) ولَم تقلب همزة؛ لأنها ياء أصلية في مصدر الكلمة (العيش) من عاش، وكما في عيب من عاب، ومصيبة من أصاب، تقول: معايب ومصايب، وكما في مفاوز من الفعل الواوي فاز فوزًا، بخلاف ما لم يكن حرف العلة فيه أصليا، فإنه بعد ألف الجمع يقلب همزة، كما في كتيبة وصحيفة، تقول: كتائب وصحائف. الكليات لأبي البقاء الكفوي ص: 331.
[2]) طه: 124.
[3]) يوسف: 103.
[4]) يوسف: 100.
[5]) الحجر:29، ص: 72.
[6]) مسند أحمد: 19403.
[7]) البقرة: 34.
[8]) الأعراف: 83.
[9]) الأنبياء: 95.
[10]) ص: 75.
[11]) الحجر: 29.
[12]) البقرة: 36.
[13]) البقرة: 38.
[14]) البقرة:34.