طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (358)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (358)

[سورة الأعراف: 14-19]

(قَالَ أَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ)(14-15)

لمّا علم إبليس نهايته بالطرد من رحمة الله قال لربّه (أَنظِرْنِي) أَمْهِلْنِي، ولا تُمتْني (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يوم الحشر، ومعنى طلبه في الحقيقة ألَّا يموتَ أبدًا؛ لأنه سألَ الإمهالَ إلى البعث، ولا موتَ بعد البعث.

(قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ) أجابه إلى بعض ما طُلب، فقال (إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ) وقد يكون هذا إخبارًا بقضاءٍ سابق في علم الله، أنه يكونُ من المنظرين، وليس إجابةً خاصةً بطلبه؛ لذا لم يقل له: أجبتُك، ويحتمل أن يكون إجابةً لبعض دعائه، فالله قد يجيبُ دعاء الكافر، قال تعالى: ﴿‌بَلۡ ‌إِیَّاهُ تَدۡعُونَ فَیَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَیۡهِ إِن شَاۤءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ﴾([1]).

وقد سألَ إبليسُ الإنظارَ فأُعطيه، وسأل ألَّا يموت فلم يعطه؛ لأنه سيموتُ قطعًا قبل أن ينقطعَ التكليفُ في الدنيا، فإنَّ الله تعالى قضى بالفناء على كل الخلائق، وسينادي يوم لا يبقى أحدٌ غيره: لمن الملك الْيَوْمَ؟ فيجيب سبحانَه نفسَه: للهِ الواحدِ القهار، والحكمة في إمهال إبليس الابتلاء به؛ ليظهر به ما علمه الله من طاعةِ الطائعين فيثيبهم، وعصيانِ العصاة فيعاقبهم.

(قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ)(16-17)

لما علمَ إبليسُ بإمهاله، وأنّ ما أصابه مِن الغوايةِ وطرده من الجنة، سببُه إباؤُه عن السجود لآدم، توعدَ ذرّيته بالغواية، وأقسمَ على أن يفعلَ بهم ذلك بكل سبيل، فقال (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).

قال إبليس لربّه أُقسمُ بسبب إغوائك إياي لأَترصدَنَّ لهم، ولأَلزمَنَّ صراطَك المستقيم وأَقْعُدَنَّ عليه؛ لأصدَّهم عنه، وأمنعهم منه بكل وسيلة، فأغوينَّهم كما أَغويتني، وآخذ في ذلك بكل الوسائل التي اعتادها العدوّ في الإيقاع بعدوّه، وهي المذكورةُ في قوله (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).

فالفاء في قوله (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي) للترتيب، رَتَّب إغواءَهم على إغوائه، والباء للسببية، متعلقةٌ بفعل قَسم محذوف، والإغواء من الغَيّ، وهو الاعتقادُ الباطل، وإلقاؤه في القلب، ولام (لَأَقْعُدَنَّ) واقعةٌ في جواب القسم، وأَقْعُدَنَّ: أَتربصَنَّ وأَلزمَنَّ، واللام في (لَهُمْ صِرَاطَكَ) للتعليل، أي: لأجلهم، لأجل إغوائهم، وضمير (لَهُمْ) يعود إلى بني آدم، و(صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) طريق الخير الموصل لمرضاتك، وصراط منصوب بأَقْعُدَنَّ؛ لتضمينه معنى أَلزمَنَّ.

واللام في (لَآتِيَنَّهُم) للقسم، و(مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) مِن أمامهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) مِن ورائهم، و(مِن) في الموضعين للابتداء (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ) (عَن) في الموضعين للمجاوزة.

يعني: آتِيهِم مواجهةً، قاصدًا لهم، طُولًا من الأمام ومن الخلف، وعَرضًا، متجاوزًا ومارًّا إلى أيمانهم وإلى شمائلهم؛ لأحيط بهم من كل جهاتهم، وهذا تصويرٌ لترصده الكامل بهم، كما يترصدُ العدو بعدوه، حتى لا يفلت منه، وإلا فهو في الحقيقة ليس له في إيقاعه بضحاياه وتسلطه عليهم، إلا جهةٌ واحدةٌ، هي إدخالُ الشك عليهم في أمور دينهم، بالوسوسة، وتزيين الشهوات، والشبهات، قال النبي ﷺ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيَدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ)([2])، كما قال الله تعالى عنه: ﴿وَمَا كَانَ لِیَ عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِیۖ﴾([3])، وفي الآية الأخرى قال عنه: ﴿لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ﴾([4]).

ثم قال إبليس مخاطبًا ربه (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) أي لا تجدُ أكثرهم مؤمنين، والضمائر في (أَكْثَرَهُمْ) وما قبلها راجعةٌ إلى بني آدم، وهو يدلّ على أن أكثر بني آدم وقعُوا تحت غوايته وتزيينه، وهذا القول (ولَا تَجِدُ) هو ظنٌّ من إبليس صادَفَ القدر، كما قال تعالى: ﴿‌وَلَقَدۡ ‌صَدَّقَ عَلَیۡهِمۡ إِبۡلِیسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ﴾([5]).

(قَالَ ٱخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومٗا مَّدۡحُورٗاۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِينَ)(18)

هذا أمرٌ ثالثٌ من الله لإبليس بالخروج من الجنة؛ تحقيرًا وإذلالًا، ودليلًا على أن إخراجه منها إخراج طرد لا رجعةَ فيه، لا كخروج آدم، تلقَّى من ربه كلماتٍ فتابَ عليه، و(مَذْؤُومًا) من ذَأَمَ، بمعنى ذَمَّ، فهو مَذمومٌ على صده عن الحق، مَدحورٌ مطرودٌ بعصيانه وتمرده، ونصبهما على الحال.

واللام في (لَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ) مُوطئة للقسم، التقدير: وعزّتي لمن تبعك لأَملأنَّ منهم جهنم، و(مَنْ) شرطية، وضمير (مِنْهُمْ) لبني آدم، و(لَأَمْلَأَنَّ) جواب القسم (مَنْ)، سَدَّ مسدَّ جواب الشرط، وضمير (مِنكُمْ) لإبليس ومن تبعه، و(أَجْمَعِينَ) تأكيدٌ لرفع احتمال المجاز، دلَّ على أنّ دخول النار هو لجميع مَن تبع الشيطان، لا مجموعهم، الذِي قد يَصدُق بأغلبهم ويكتفَى به.

[الأعراف: 19، وَيَٰٓـَٔادَمُ ‌ٱسۡكُنۡ]

‌وَيَٰٓـَٔادَمُ ‌ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ

جملة (ويا آدم اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) عطفٌ على (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَآئِكَةِ اسْجُدُواْ لِآدَمَ) أي قلنا للملائكة: اسْجُدُوا لآدم، وقلنا: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وهو عطف تكريم على تكريم؛ تكريمه بسجود الملائكة له، وتكريمه بدخول الجنة، وزاده حُسنا وتفضيلًا أن جاء الأمر بإسكانه الجنة عَقب أمر إبليس بالخروج منها، وفي ذلك من الحفاوة بآدم والتحقير لإبليس وكسرٍ لكبريائه، ما لا يخفى، وقوله: (اسْكُنْ) أمر امتنان لآدم بدخول الجنة، وقوله (ولَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي: لا تأكلا من هذه الشجرة التي نهيتما عنها، فتصيرَا من الظالمين أنفسهما بالإخراج من الجنة، فـ(تَكُونَا) يصح جزمه في جواب النهي في قوله: (وَلَا تَقْرَبَا) ويصحُّ نصبُه بالفاء بعد النهي، وتقدّم تفسير نظير هذه الآية في قوله تعالى: ﴿وَقُلۡنَا ‌یَٰۤءَادَمُ ‌ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ﴾([6]) في البقرة، فلا حاجة لإعادته.

 

[1])    الأنعام:41.

[2])    مسند أحمد:2097.

[3])    إبراهيم: 22.

[4])    الحجر: 39.

[5])    سبأ:20.

[6])    البقرة:35.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق