المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (359)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (359)
[سورة الأعراف: 20-26](فَوَسۡوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ لِيُبۡدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ ٱلۡخَٰلِدِينَ)(20)
أي أن الشيطان وسوس لآدم وزوجه في الجنة، وألقى إليهما ما يريد تحصيله منهما في خفاء، متظاهرًا لهما بالنصح، وأنه يفعل ذلك لأجلهما، وكأنه يخصهما بشيء نفيس يُسِره إليهما، مع أنه في الواقع يريد إغواءهما وإيقاعهما في حبائله؛ ليضلهما ويرديهما، فزيّن ما حرمه الله تعالى عليهما؛ لتكون عاقبة وقوعهما في المعصية أن يتعريا، وينكشف ما كان مستورا عن أعينهما، فالوسوسة الصوت الخفي المتكرر، ولذا يقال لصوت الحلي: وسوسة، وتطلقُ الوسوسة على حديث النفس، ويقال لمن حصلت له الوسوسة مُوسوِس بالكسر، أي قابل للوسوسة، أو مُوسوَس له بالفتح.
واللام في (لَهُمَا) للتعليل أي وسوس لأجلهما متظاهرا لهما بالنصح وهو يريد إغواءَهما، واللام في (لِيُبْدِيَ) للعاقبة، ولِيُبْدِيَ: ليُظهر ويكشف سوءاتهما وعوراتهما، و(مَا وُورِيَ) ما ستر عنهما، و(مِن) في (مِن سَوْءَاتِهِما) بيانية، وسَوْءاتهما: جمع سَوْأة، وهي العورة، وسُميت العورة سوءة؛ لأن النظر إليها يسوءُ صاحبَه، وجُمع سوءاتهما وهما اثنان استعمالاً للجمع في المثنى تخفيفًا، كما في قوله: ﴿فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَا﴾([1]).
(وَقالَ مَا نَهاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) بعد أن مَهَّد الشيطانُ لمكره بهما، بإلقاء الوسوسة في خواطرهما، بِما أراد من إغوائهما بالأكل من الشجرة؛ للوقوع في المعصية، جاهرهُما القول بما كان وسواسًا، وقال مُحرِّضًا لهما على سوء الظن بربهما: ما نهاكما ربكما عن الأكلِ من هذه الشجرة وحدَها، دون غيرها، إلَّا لأنّ مَن أكل منها يتحولُ عن آدميته، ويصير من الملائكة، ويُكتب له الخلود والنجاة من الموت، فهو يقول لهما بدلالة الالتزام: الله لا يريد لكما الخلود، ولا أن تكونا ملَكين، ولذلك حرمكما الأكل منها، فخدعهما بذلك، وصَدَّقاه، فانكشف سترهما في الحال.
والاستثناء في قوله (إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ) من عموم الأسباب، أي: ما نهاكُما لسبب من الأسباب إلا لخشية أن تكونا مَلَكين، أو لئلا تكونا كذلك، و(أَوْ) في قوله (أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) للإباحة، وليست مانعة جمع بين الملكية والخلود.
(وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ)(21-22)
أكد إبليس حين وسوس إليهما على إظهار نصحه لهما بالقسم، وأنه ما فعل ذلك إلا نصحًا لهما، فدلاهما وأنزلهما من رفعتهما، وأسقطهما عن رتبة الطاعة إلى درك المعصية بقَسَم، مغرِّرًا بهما بما أطمعهما فيه من الخلود في الجنّة، إذا هما أكلا من الشجرة، فعل ذلك حالة كونه مصحوبًا بتغرير ومخادعة، فالشيطان أوقعهما بالأكل من الشجرة بإطماعهما في الخلود، وعاد عليهما بالخسارة، والخروج من الجنة.
فقوله (وَقَاسَمَهُمَا) صيغة مفاعلة من القسم والحلف، أصلها تقتضي القسم من الطرفين، يحلف إبليس على نصحه، ويحلف آدم على قبول النصح، لكن المفاعلة هنا على غير بابها، كما في: سافر فلانٌ وعافاه الله، فالمفاعلة فيها للمبالغة وقوة المعنى الذي دل عليه الفعل، وكان غرض إبليس التأكيد على إظهار نصحه، فكانت صيغة المفاعلة إحدى المؤكدات بالإضافة إلى (إنّ) وتقديم الجار والمجرور (لَكُمَا) على عامله، وباللام الواقعة في جواب القسم.
وقوله (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) أي أسقطهما وأنزلهما من عز الطاعة إلى ذل المعصية مغرِّراً بهما بما أطمعهما فيه من الخلود في الجنّة إذا هما أكلا من الشجرة، وأصل (دَلَّاهُمَا) من إدلاء الدلو في البئر؛ طلبا للماء، كما يُدلي العطشان الدلو في البئر؛ طمعا في الماء، فلا يجد ما توقعه وما يشفي غلته، فالباء في (بِغُرُورٍ) للملابسة، والغرور من الغرر والمخاطرة.
وقوله (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي ما إن ذاقا طعم الشجرة حتى وقعت العقوبة، وانكشفت سوآتهما وعوراتهما، وشعرا بالذنب؛ لظهور وانكشاف ما يُستحيى من تعرّيه بالفطرة، وشَرَعَا على الفور يضعان ورق الشجر على أنفسهما يتستران به، ويلصقان بعضه على بعض؛ ليتقوى الستر.
و(لَمَّا) في قوله (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ) من أدوات الشرط، حرف وجود لوجود، يترتب فيها وجود الجواب على وجود الشرط دون تراخٍ، أي أول ما تناولا ثمرة الشجر بالأكل وتذوقاها (بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُما) وانكشفت عوراتهما، وأدركا بالفطرة قبح انكشافها ورؤيتهما لها، والذوق: وضع الطعام على اللسان؛ لاختبار طعمه ومذاقه، و(وَطَفِقَا) شَرَعَا وبَدآ، و(يَخْصِفَانِ) من الخَصْف، وهو تقويةُ طاقِ النعل وجلده بالخرْزِ، وإلزاقُ بعضها على بعض؛ لتشتد وتقوى، وقوله (يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا) أي على أنفسهما؛ ليتستَّرا، و(مِنْ) في (مِنْ وَّرَقِ الْجَنَّةِ) بيانية، وورق الجنة: ورق أشجارها.
وقوله (ونَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا) أي ناداهما نداء تقريع، وقررهما على الاعتراف بما نهاهما عنه، فالاستفهامُ في قوله (أَلَمْ أَنْهَكُمَا) للتقرير والتقريع، فذَكَّرَهما بما حذرهُما منه في قوله (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) فكان عليهما ألَّا يغترَّا بنصح عدوهما.
وقولهما بعد ذلك (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) اعترافٌ منهما بالذنب، أدركا أنهما استحقَّا غضب الله، واستوجبَا عذابه، وإن لم يتداركهما بعفوهِ ومغفرته كانا من الخاسرين، فربنا في قوله (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) نداء منهما إلى الله ودعاء بالمغفرة والتجاوز عما فرط منهما، وهو نداء بحذف ياء المنادى، وكثيرًا ما تحذف الياء مع اسم الربِّ في الدعاء؛ للتعظيم والتنزيه.
(قَالَ ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ)(24)
خاطب الله آدم وحواء في قوله (اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) بضمير الجمع؛ تأكيدًا للأمر بإخراجهما، وإخراج إبليس من الجنة، بعد أن خُوطب الشيطان بمفرده وخوطبا هما على حدة قبل هذا في قوله (اخْرُجْ مِنْهَا) وقوله ﴿فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِیهِۖ﴾([2]).
وخطاب إبليس هو خطابُ إخراج وطرد، أما آدم وحواء فكان إخراجهما عقوبةً عاجلةً من الله تعالى لهما على المعصية؛ ليعلما، وتعلم ذريتهما أن المعاصي سببٌ لما ينزل بهم من المصائب، وسببٌ لحرمانهم من النعم، وتنبيهٌ لهم على عداوة الشيطان، وألا يغتروا بنصحه مهما أكده لهم أعوانه من شياطين الإنس، ولو بالأيمان المغلظة، فقد احتال على أبيهم بمثل ذلك.
وجملة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) حالية، إبليس وَذُرِّيَّته بعضٌ، وآدم وَذُرِّيَّته البعض الآخر، فالعداوة بينهما مستحكمة، قضى الله بها، ليس منها انفكاك.
والخطاب في قوله (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ) لإبليس وَذُرِّيَّتِهِ وآدم وَذُرِّيَّتِهِ، أي مكان استقراركم ومقامكم بعد هذا الأمر بالهبوط من الجنة هو الأرض، لكم فيها متاع، منافعُ ومتعةٌ تبعثُ فيكم رغبةَ الحرص على البقاء؛ ليستمر تعميرُ الأرض، ولا ينقطع استخلافُكم فيها، إِلَى حِينٍ وأجل قدره الله لعمارة الأرض، ثم تفنون جميعًا، وتبعثون للحساب، وإلى هنا انتهى الخطاب الموجه لآدم، ومعه إبليس، ثم قال الله لآدم وَذُرِّيَّتِهِ:
(قَالَ فِيهَا تَحۡيَوۡنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنۡهَا تُخۡرَجُونَ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمۡ لِبَاسٗا يُوَٰرِي سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِيشٗاۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَٰلِكَ خَيۡرٞۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ)(25-26)
الضمائر المذكورة في هذا الآية (فيها) (وفيها) (ومنها) كلها تعود إلى الأرض، التي جعلها الله مُستقَرًّا لآدم وَذُرِّيَّتِهِ؛ لأنهم هم الذين يعيشون عليها، ويدفنون فيها، ومنها يخرجون للبعث والحساب، وقال مُمتنًا عليهم (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) فامتنَّ الله على ذرية آدم أولًا باللباس المعتاد للستر، ثم امتن عليهم بالرياش، وما يُتزين ويُتجمل به من اللباس الفاخر والثياب الجميلة، كلباس الجُمَع والأعياد، وما يُتجمل به للوفود وفي المحافل، ومنه قوله تعالى: ﴿قَالَ مَوۡعِدُكُمۡ یَوۡمُ ٱلزِّینَةِ وَأَن یُحۡشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحࣰى﴾([3]).
فاللباس: ما يُلبس، وفِعله لبِس يلبَس لِبسًا، ويُطلق على كل ملبوس، ثوبًا أو شملةً أو عِمامةً أو جوربًا، وإنزال اللباس من السماء بمعنى إيجاده وتدبيره، وإلهام الناس إليه، فهو مِن خالقِ الخلق، وكلّ ما ورد في القرآن أن الله أنزله من السماء، فهو بهذا المعنى، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ ثَمَٰنِیَةَ أَزۡوَٰجࣲ﴾([4])، و(يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ) أي يستر عوراتِكم، من المواراة، وهي السَّتر، وهو دليل على وجوب ستر العورة مِن السوأتين، والرِّيش في قوله (وَرِيشًا) لباس الزينة الذي يُتَجمّل به ويجمع على رِياش، ومنه رِيش الطير؛ لأنه زينته.
(وَلِبَاسُ التَّقْوَى) هو لباسُ الجهاد في سبيل الله؛ لقتال العدو، مثل: الدُّروع، والواقي، والخُوَد، والأحذية الخاصة، فهو خيرٌ من زينة اللباس والحلل والرياش والشَّمْلات الفاخرة، والطيالس ونحو ذلك، أو لباس التقوى التزين بتقوى الله، والعمل الصالح.
والإشارة في قوله (ذَلِكَ خَيْرٌ) إِما إلى لباس المجاهد، فهو لباس التقوى وخير اللباس، وليس لباسَ الزينة: الرِّياش، ويصح عود الإشارة في (ذَلِكَ خَيْرٌ) إلى كل اللباس المذكور بأنواعه؛ المعتاد، ولباس الزينة، ولباس الجهاد، فكلها خيرٌ من الله، ومنّة منه تستوجب الشكر، ولذا ختمت الآية بقوله (ذلِكَ مِنْ ءَايَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) ذلك الإنزال للِّباسِ مِن آيات الله، من الآيات والأدلة الدالة على فضل الله وإنعامه لعلهم يذكرون الله، فيشكرونَه ولا يكفرون.
[1]) التحريم:4.
[2]) البقرة: 36.
[3]) طه:59.
[4]) الزمر:6.