المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (360)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (360)
[سورة الأعراف: 27-28](يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ يَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوۡءَٰتِهِمَآۚ إِنَّهُۥ يَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِيلُهُۥ مِنۡ حَيۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ)(27)
المعنى: احذروا يا بني آدم أن يكون الشيطان متسلطًا عليكم بالوسوسة، مُتَمكِّنًا منكم، كما تسلط على أبويكم، وسوس لهما فأخرجهما من الجنة، والنهي في الظاهر في قوله (لَا يَفتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيطَٰنُ) مُوجَّهٌ إلى الشيطان أَلَّا يتسلط عليهم، فيفتنهم، وهذا ليس من فعل الناس، ولا في مقدورهم، فمعناه نهيهم عن أن يُعَرِّضُوا أنفسهم لإضلاله باتباع خطواته، وبالاستجابة لوسواسه، أو أن ينخدعوا بنصحه، فهذا هو المَعنيُّ بالنهي على الحقيقة، وهو الذي يدخل في مقدور الناس، فَنُهُوا عنه على أبلغ وجه، فإنه إذا صَوَّر لهم الشيطانُ عدوًّا يطلبهم للفتنة، يكون أبلغ في الحذر منه مما قيل لهم: لا تفتتنوا بالشيطان، وذلك كما لو أردتَ أن تُحَذِّر ابنك أن ينفق ماله على رُفقة سوء، فقلت له: لا يَتسلطُ عليك أهل السوء فيسلبوا مالَكَ، فإنه يكون أوقع في احتياطه منهم مما لو قلت له: لا تُنفقْ مالَك على رُفْقة السوء.
وأكدت الآية التحذير من الشيطان بالتذكير بالفتنة التي تعرض لها آدم وحواء، بإخراجهما من الجنة، فإنه أخرجهما من دار الراحة إلى دار الابتلاء، وذَكَّرَهم بما عَرَّضَهُما له من نزع اللباس، وكشف العورة؛ ليريهما سوآتهما، ويجعلهما يريان ما يُستحَى من كشفه؛ إمعانًا بإيذائهما.
فالفتنة في قوله (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أصلها تخليصُ الشيء وتصفيته من الغش، كما يُفتن الذهب ويُخَلّص من شوائبه بالنار، وتُطلق الفتنة على الابتلاء، وعلى الإضلال، وهو معناها هنا، بإضلال التعرض لوسوسة الشيطان، واتباع طريقه.
وقوله (أَبَوَيْكُمْ) آدم وحواء، سُمَّيا أبوين وهما أب وأمٌّ من باب التغليب (وَقَبِيلُهُ) جماعته وجنده وأعوانه، من القَبِيل الجماعة، فإذا كانوا من أبٍ واحدٍ فهي القبيلة، والضمير في قوله (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) لإبليس، و(قَبِيلُهُ) جنوده وجماعته الذين يأتون من قِبله وجهته، فالشياطين يَرَوْن الناس، والنَّاس لا يرونهم على صورهم التي خلقوا عليها، وما يتمثل به الشيطان على صورة إنسان أو غيره، هو من باب خرق العادة، ومنه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ البَارِحَةَ؛ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلاَتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ..)([1])، وَكمَا تمثل لأبي هُريرة h، عندما أمسك بالرجل الذي يسرق زكاة الفطر من المسجد، وذكره للنبي ﷺ، فقال له: ذلك شيطان([2]).
وجملة (إِنَّهُ يَرَاكُمْ) تعليلية، تؤكد التحذير من الشيطان، فهو أقدر على فتنتكم منكم على الحذر منه؛ لأنه يراكم هو وجنوده، وأنتم لا ترونهم، والعدو المبصر لعدوه أقدر عليه من الذي لا يبصره.
والأولياء في قوله (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) هم الأحباب والأصحاب والأعوان، بعضهم أولياء بعض، إخوان الشياطين، يعتمد بعضهم على بعض.
فهم في فتح أبواب الشر وسد أبواب الخير فريق واحد، يتناصرون ويتعاونون، الشيطان يعقد المجلس مع أوليائه من الإنس، وهم لا يرونه، فما يدبره الإنسان، ويدور في رأسه، مما لا يُرضي الله من مكر وكيد، بقتل وبغي، أو بإرجاف وتخذيل للمؤمنين؛ لنصرة الباطل وأهله، أو احتيال وسطو على ما حرمه الله، من مال، أو نفس، أو عِرض، أو تزوير وكذب، وقلب للحقائق، وتستر على المجرمين، وتشويه الخيرين الصادقين، أو بإنفاق دول خزائن أموال شعوبها على قتل شعوب أخرى، وتخريب أوطانها، وتمكين عدوها منها، أو ببذل المال لشراء ذمم المفسدين لقتل العلماء، والعداء للدين – كل هذا وغيره، مما فيه انحراف على صراط الله المستقيم؛ لإبليس فيه النصيب الأكبر بالوسوسة والتدبير والتلبيس والتزيين.
وينسُبه المغرر بهِ من الإنس إلى مواهبه وذكائه وفطنته، ولا يرى قبح فعله لظُلمة قلبِه، لا يراه مهمَا كان القبح شاخصًا يمشي على الأرض، يكاد الأعمى يبصره، لا يراه مهما اشتدت حُلكته وظلامه، وأصاب الناس من شره وضيره وترويعه وتجويعه، ومهما انتهك المجرمون فيه من حرمات، حتى ولو شُنق الأموات، وأضرمت النيران في جثت نُبشت قبورها، وأخرى لنساءٍ وأُسَرٍ أُبيدت بأكملها، قُتلت صبرا في الميادين – حتى لو دُنست السيادة، وقَتل العدوُّ الأجنبي بطائراته أبناءَ البلد، ودَمَّر المدن وَسَلّط الحاكم بالوكالة عن العدو المرْتَزِقة إلى الموانئ؛ ليسلُب النفط الذي حرم منه ابن البلد، حتى لو تفككت الدولة، وعملت بلا قانون ولا شرعة، وانعدم الأمن، وتربع قطاع الطرق على العروش، وأتى اللصوص على البنوك، وأُحرقت البيوت بعد أن هُجِّر أهلها.
حتى لو قُتل العلماء، وسُلبت أموال الأغنياء، وعَزَّ القوت، وارتفع الدولار، وغلت الأسعار، وكُممت الأفواه، وهُدِّد كل صوت حرّ مدافع عن الحق بقطع اللسان، والقتل والخطف، وسجون التعذيب، وزوار الفجر، حتى لو سُلب الثوار ثورتهم، وسامهم سوءَ العذاب من جَلَّسُوهم على الكراسي، وحرسوهم ومكنوا لهم.
حتى لو حدث هذا وأكثرُ منه؛ كما رأيناه وشاهدناه في هذه السنين، من تسلط الإماراتيينَ وأذناب الصهاينة والشياطين، فلا يزال في بني قومي مَن يقول: لا مَخْلَص للوطنِ إلّا مِن خلال المشروع الذي أتى لنا بكلِّ هذا الكَمد (الصخيرات).
(وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ)(28)
الذين إذا فعلوا فاحشة قالوا (وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) هم المشركون، وهم من تقدم وصفهم بأنهم أولياء الشياطين في قوله (إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ) وقوله (فَعَلُواْ فَاحِشَةً) أي فعلوا فِعلةً فاحشة، والفاحشة من الفُحْش، وهو القوة في الشيء السيئ القبيح، فالفاحشة ما بلغت الغاية في القبح، مما يُستحَى منه من المعاصي؛ كالزنا، واللواط، والسرقة، ووأد البنات، وما إلى ذلك.
(قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَآءَنَا) اعتذَروا إذا نُهُوا عن هذه الفواحش لمن خالفهم فيها من قبائل العرب في الجاهلية، ومن نهاهم من أهل الإسلام، بعد مجيء الإسلام، الذي لا يرضى الفواحش، اعتذَروا عن ذلك بعذرين؛ أحدهما لا قيمة له، وهو قولهم (وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَآءَنَا) ولذلك لم تصرح الآية بالرد عليه، والآخر أبطلته الآية؛ لأنه كذبٌ وافتراء.
بَرَّروا لإتيانهم الفاحشة بقولهم: إنا وجدنا عليها آباءنا، ومعلومٌ أن فعل آبائهم لا يصلح حجةً؛ لأن الفواحش معاصٍ يُستحيى منها، فكما يَتوجه لهم النهي عنها يَتوجه إلى آبائهم، فهم مثلهم([3]).
وأما قولهم (وَاللهُ أَمَرَنا بِهَا) فهذا محضُ كذبٍ وافتراء، جَرَّهم إليه جهلهم بالله ـ تبارك وتعالى ـ المنزه عن النقائص؛ لأن من تنزه في صفاته وأفعاله عن النقائص لا يأمر بالنقائص والفواحش، ولذا خُتمت الآية بتوبيخهم على هذا الكذب.
فالاستفهام في (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) إنكاري توبيخي على قولهم عن الله بغير علم، ولأن ما قالوه هو كذبٌ لذا عُدِّي فعلُ تَقُولُونَ بعَلَى؛ لتضمينه معنى الكذب، وإلّا فالأصلُ في القول أنْ يتعدّى في مثله بعَنْ.
[1]) البخاري: 3423.
[2]) البخاري: 2311.
[3]) وهذا ما يسمى في علمِ الجدل بالمصادرة، وهو القفزُ إلى المقدمة، وجعلُها نتيجة.