طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (361)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (361)

[سورة الأعراف: 29-31]

(قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۚ كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُۚ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ)(29-30)

في هذه الآية إبطالٌ ـ على وجه آخر ـ لافتراءات المشركين، من مثل قولهم إذا فعلوا فاحشة: (وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) وقد رَدَّ الله عليهم بقوله (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ثم قال (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) والقِسْطُ هو العَدْل، ومنه سمي الميزان القِسْطَاس، والعَدْلُ هو الوَسَطُ في كل شيء، بين طرفي الإفراط والتفريط، وليست الفواحش كذلك، فالعَدْلُ والقِسْطَاسُ لا يجتمعان مع الفواحش؛ لأن الفواحش ظلمٌ، لا تكون إلا بإفراط أو تفريط، فالنكاح ـ مثلًا ـ عدلٌ؛ لأنه وسط بين تهتك الفواحش والرذيلة، وبين التبتل والإخصاء، والقِصاص عدلٌ، وَسَطٌ بين أن تذهب الدماء هدرًا، وبين المكايلة في الدماء، والأخذ بثارات القبيلة، وقتل غير القاتل بالعصبيات.

وجماعةُ المسلمين المتمسكةُ بنهج النبي ﷺ وأصحابه، وَسَطٌ بين غلاة التكفير والتبديع، وبين العلمانية ومَن على شاكلتها، ممن لا يَرَوْن للدين علاقةً بحياة الناس، ولا مكانَ له غيرُ المساجد.

وعلاقة المسلمين بغير المسلمين الذين لمْ يقاتلِوا المسلمينَ في الدِّين، ولَم يخرجوهُم مِن ديارهم، كما أَمر الله وسطٌ بين الولاء لهم، والارتماء في أحضانهم، بالتجسسِ لهم، والتعاون مع استخباراتهم، والعمالة لهم، وبين من لا يرى من المسلمين معايشة ممكنة مع الكفار على وجه الأرض مطلقًا، وهكذا كُلُّ أحكام الإسلام وسطٌ بين إفراط وتفريط، وهو مِن معنى قول الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةࣰ ‌وَسَطࣰا﴾([1]).

والخطابُ في قوله (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) موجه لكل أمة الدعوة، فالمشركون ـ بما دل عليه هذا الأمر ـ مأمورون بترك الشرك، فلا يعبدوا مع الله هُبلَ ولا صنمًا، ولا يتخذوا لله أندادًا، وأن يتوجهوا إليه وحدهُ بالعبادة، فيما وضعه في الأرض من مساجد ومشاعر تقام فيها الصلوات، ويعبد الله فيها، وتقام بها شعائر الدين، ومعالم التوحيد.

والمسلمون مأمورون أن يَثبتوا على التوجه بعبادتهم إلى ربهم، ويداوموا على ذلك، وإقامة الوجه عند كل مسجد تعني التوجه إلى الله دون غيره، والإقبال على ما يُقبِل عليه العبد من العبادة بكليته، ويجمع لها همّته وعنايته، ولا يُقبل عليها بقلبٍ لاهٍ غافلٍ متثاقلٍ.

وقوله (عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي أقيموا وجوهكم لله في كل وقت ومكان؛ لإقامة عبادة وشعيرة من شعائر الله، في مساجد الله المعتادة وفِي غيرها، وإقامة الوجوه لله عند كل مسجد، لا تخص العبادات الشعائرية من صلاة ونسك، بل تعمُّ أمر الدين كله، بإقامة الحدود، والعدل بتنفيذ أحكام الشرع، وإعداد الجيوش لنصرة المسلمين والمستضعفين، وقمع أهل الإجرام والمفسدين من أعداء الله وعملائهم في بلاد المسلمين، فكل ذلك داخل في الأمر بإقامة الوجه لله عند كل مسجد، فالمسجد في الإسلام ليس خاصًّا بإقامة الصلاة المكتوبة، بل تنطلق منه كل دعوة للإصلاح، وتُجيّش منه الجيوش وتعقد الألوية وتجمع الأموال بما يتطلبه الجهاد في سبيل الله، كما كان عليه الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

(وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) اعبدوه عبادةً تكون الطاعة فيها خالصةً لله، خاليةً من الشرك ومن الرّياء، ومن كلّ شائبة؛ لأن الإخلاص معناه تصفية الشيء من الشوائب، فـ(الدِّينَ) في الآية معناه الطاعة.

(كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) أي كما خَلَقكم أول مرة من العدم، يبعثكم من قبوركم، ويعيدكم، فمن لا يعجزه البَدء لا تعجزه الإعادة، قال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی یَبۡدَؤُا۟ ‌ٱلۡخَلۡقَ ‌ثُمَّ ‌یُعِیدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَیۡهِ﴾([2]) (فَرِيقًا هَدَى) فريقًا ممن بلغتْهم الدعوة أخذوا بأسباب الهداية، فوفقهم الله إليها، وهداهم، وشرح صدرهم للإسلام (وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) وفريقًا آخر عاندوا وكابروا، وأخذوا بأسباب الغَواية، فلم يوفقهم، فثَبَتوا على الضلالة التي هم عليها من عبادة الأوثان.

فالناس فريقان: فريق أقبلوا على الآيات، ونظروا فيها، وانتفعوا بها، فهداهم الله، وتنّورت قلوبهم بالإيمان، وفريق آخر أعرضوا فلم يلتفتوا إلى الآيات، ولا نظروا فيها، فعَمُوا وصَمُّوا، فبَقُوا على ما هم عليه من الضلال، وأسندت الهداية إلى الله في قوله (فَرِيقًا هَدَى) ولَم تسند الضلالة في قوله (وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) إلى الله؛ تعليما للأدب مع الله، بإسناد الخير إليه دون الشر، وإلا فالفاعل للأمرين على الحقيقة هو الله.

وجملة (إِنَّهُمُ اتَّخَذُواْ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ) في موضع التعليل، تبين سبب ضلالهم؛ أي حقت عليهم الضلالة لأنهم اتخذوا الشياطين أولياء، حيث جعلوا إبليسَ وأولياءه أحبابهم وأوليائهم، فأبعدوهُم عن طريقِ الله.

والمصيبةُ عليهم مصيبتان، فإنهم أضافوا إلى موالاتهم للشياطين معصيةً أخرى، يصعب التخلص منها، وهي تَوهُّمُهم توهمًا لا دليل لهم عليه ولا برهان، أنهم على الطاعة، وحقيقةُ أمرهم المعصية، قال تعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِینَ أَعۡمَٰلًا ‌ٱلَّذِینَ ‌ضَلَّ ‌سَعۡیُهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ یَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ یُحۡسِنُونَ صنعا﴾([3])، ومن كان على هذه الحال، فإنه لا يشعر بالحاجة الى التوبة.

ووصفهم بهذا الوصف: يحسبون أنهم مهتدون؛ لذم حالهم السيئة، وفيه دليلٌ على أن المخطئ في الشرك والمعاندَ يستويان في عدم العذر.

(يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ)(31)

الأمر في قوله (خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) للرد على ما كان عليه أهل الجاهلية من التعري عند الطواف بالبيت، وكانت قبائل العرب كلها تفعل ذلك إلا الحُمْس، وهم قريش، فمَن قدم إلى البيت من القبائل الأخرى يطوف عُريانًا، إلا إذا أعطاه أحدٌ من قريش ثوبًا، الرجال يعطون الرجال، والنساء تعطي النساء، وكانوا يفعلون ذلك إذا دخلوا مسجدَ مِنى أيضًا، طرحوا ثيابهم ودخلوه عُراة، كما ورد عن عروة بن الزبير([4])، فجاءت الآية في الرد عليهم، والأمر بمخالفتهم.

ويدل الأمر في قوله (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) على وجوب ستر السوأتين في الصلاة، وما زادا على ذلك من الستر وأخذ الزينة مطلوبٌ طلب كمال، روى مسلمٌ عن عروة قال: (كَانَتِ الْعَرَبُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، إِلَّا الْحُمْسَ)([5])، وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا؟..”([6])، وهذا من الفواحش التي أبطلها الإسلام، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عام أن حج أبو بكر بالناس؛ أن يُنادى في الموسم: ألَّا يحج بعد هذا العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان([7]) فانتهى الناس، وانقطع الفساد؛ لأن الكلمة حينها كانت للإسلام، فقد انكسرت دولةُ الشرك وهُدمت معالمه بفتح مكة.

والأمر في (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ) للإباحة، وفيه رد أيضًا على ما كان أهل الجاهلية التزموه إذا دخل الموسم، من تحريم اللحم والدسْم، ولا يأكلون سوى القوت، كما جاء عن ابن عباس.

والإسراف المنهي عنه: مجاوزة الحد المتعارف عليه، فهو لكل أحدٍ بحسب حاله؛ من فقر وغنى، ومكانة ومنزلة في قومه، فما يكون إسرافًا لبعض الناس قد لا يكون إسرافًا لآخرين، هذا مع التقيد في الإنفاق بالحلال، وما كان من الإنفاق في الحرام فكله تجاوزٌ وسرفٌ محرم، وقوله (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ذمٌّ وجُرحة تصيب كل من اتصف بصفة الإسراف، حيث حُرِم محبةَ الله.

 

[1])    البقرة: 143.

[2])    الروم: 27.

[3])    الكهف: 104.

[4])    البخاري: 1665.

[5])    مسلم: 1219.

[6])    مسلم: 3028.

[7])    البخاري:4655.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق