طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (366)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (366)

[سورة الأعراف: 44-47]

(وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدۡ وَجَدۡنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّٗا فَهَلۡ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمۡ حَقّٗاۖ قَالُواْ نَعَمۡۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُۢ بَيۡنَهُمۡ أَن لَّعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ كَٰفِرُونَ)(44-45)

هذا النداء لمضاعفة السرور لأهلِ الجنة بنعيمِهم، وقد أورثَهم الله الجنة وما فيها، مما لم يحتسبوه، فينادُون مبتهجين قائلين لأصحاب النار: أنْ قدْ وجدْنا ما وعدَنا ربُّنا من النعيم والجنان حقًّا، فهل وجدتم ما توعّدكم به مِن عذابِ النار حقّا؟

وحينها نادَى منادٍ بينهم، يسمعونه جميعًا، ومضمونُ هذا النداء: أن لعنة الله وغضبه ونقمته، والطرد من رحمته (علَى الظَّالمِين) أي حلَّ بالكافرين، الذين مِن صفاتهم أنهم كانوا (يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا).

وصدهم عن سبيل الله لهم فيه وسائلُ متعددة، منها؛ الأذى لأهلِ الدين بالسبِّ والشتم، أو الأذى بالتعذيبِ والتنكيل لمن يقدرون على أذاه، ومنها؛ التشويه والتسفيه والاستخفاف وإلصاق العيوب، واختلاق الأكاذيب حول الدين، وحول مَن يُبَلّغونه مِن رسل الله، وقد توارث هذا الخلقَ الذميم عنهم مِن المسلمين مَن يعادُون الدِّين، ويعادون العلماءَ والدعاة، فسلكوا مَسلكَ مَن أخبر الله تعالى عنهم من المكذبين، الذين يصدُّون عن سبيل الله، ويبغونها عِوَجا، فجاؤوا من سَيءِ القولِ في الإفك والبهتانِ بمثل ما جاء به مَن سَبَقهم، أو أشدّ، ومن استهزاءِ المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم قولهم في مجالسهم: ﴿هَلۡ نَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلࣲ یُنَبِّئُكُمۡ إِذَا ‌مُزِّقۡتُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمۡ لَفِی خَلۡقࣲ جَدِیدٍ أَفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةُۢ﴾([1])، وقولهم عن القرآن: ﴿وَقَالُوۤا۟ أَسَٰطِیرُ ٱلۡأَوَّلِینَ ‌ٱكۡتَتَبَهَا فَهِیَ تُمۡلَىٰ عَلَیۡهِ بُكۡرَةࣰ وَأَصِیلࣰا﴾([2])، وفِي هذا وأمثاله مما رُمي به الرسول صلى الله عليه وسلم تسليةٌ وبشارةٌ، لكلّ من أُوذي في الدعوة إلى الله وصَبَر، بأنه على طريق الأنبياء.

أجاب أهل النار جواب حسرة وندم معترفين؛ فقالوا: نَعَمْ، وجدْنا ما وعدَنا ربُّنا حقّا، لأنهم لم تعد تسَعُهم المكابرةُ التي كانوا عليها في الدنيا.

والنِّداء: هو خطابٌ للتنبيه بأمر مهم، وهو نداءٌ يصدره أهل الجنة لأهل النار، ومع ما بينهما من حجاب وبُعد، فإنهم يَسْمَعُونهم؛ بما يجعله الله لهم من القدرة على ذلك، وما ذلك على الله بعزيز، وقد رأينا الْيَوْمَ من عمل البشر ـ مع عجزهم ـ ما يمكن معه أن يَصل خبر مِن أي بقعةٍ من المعمورة إلى أصقاع الدنيا فورَ صُدوره، والله سبحانه له المثلُ الأعلى، ولا يعجزه شيءٌ.

وأن في (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا) تفسيرية، فمضمون نداء أصحاب الجنة قولهم (قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنا حَقًّا) والنكتة من هذا النداء التعبير عن اغتباطهم بما هُم فيه، وإغاظة الكافرين؛ لتشتدَّ حسرتهم، ويَعظم كربُهم، وإلا فإنَّ أهل الجنة يعلمونَ أن تَوَعُّدَ الله الكافرينَ بالعذابِ واقع.

فالاستفهام في قوله (فَهَلْ وَجَدْتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) لإثارة مزيدِ الحسرةِ في قلوب أصحاب النار، ومضاعفةِ ألمهِم بما صارَ إليه حالهم، وصار إليه حالُ المؤمنين، وقد كانَ الكفرة يرون أن المؤمنين قد ضلُّوا، لتركهم ما توارثُوه من معتقداتِ الجاهلية، وأُسند الوعدُ في جانبِ أصحاب الجنّة إليهم (ما وَعَدَنَا) لأنهُ خاصٌّ بهم، لا يشاركهم فيه غيرهم، ولَم يسندْ فعل الوعد في جانب أصحاب النار كذلك، فقال (مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ) ولَم يقلْ: وَعَدَكَمْ؛ لأن بعض ما تُوعدوا به من البعث والحساب ليس خاصًّا بهم، بل يشاركهم فيه غيرهم.

وأنْ في (أَنْ لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) تفسيريةٌ مثل الأولى.

وقوله (يصدونَ) من الصدِّ، وهو صرفُ الناس ومنعُهم من الدخول في الدين، و(سبيلِ الله) دينه، وما جاءت به الرسل، و(عِوَجًا) من الاعوجاج؛ بمعنى عدم الاستقامة، يُحرفون الحق ويَميلون به إلى الباطل؛ ليَعْوَجَّ، والاعوجاج في المعاني – كما هنا – بكسرِ العين عِوَجَ، وفِي الذوات كالحائط والرمح بفتحها، فيقال: في الحائط عَوَجٌ، وفي الكلام عِوَج.

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) وهذا القول في الآخرة بالإخبار بكفرهم من المنادي، حكايةٌ لما كانوا عليه في الدنيا، واستمروا عليه إلى أن ماتوا، فهم في الدنيا كانوا كافرين بالآخرة كفرًا مستمرًّا، لم يتزحزحُوا عنه، وهو سر الإخبار عنه بالجملة الاسمية، المفيدة للدوام والثبوت.

(وَبَيۡنَهُمَا ‌حِجَابٞۚ وَعَلَى ٱلۡأَعۡرَافِ رِجَالٞ يَعۡرِفُونَ كُلَّۢا بِسِيمَىٰهُمۡۚ وَنَادَوۡاْ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۚ لَمۡ يَدۡخُلُوهَا وَهُمۡ يَطۡمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتۡ أَبۡصَٰرُهُمۡ تِلۡقَآءَ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ)(46-47)

الضمير في (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ) يرجع إلى الجنّة والنّار، فقد مرَّ ذِكرهما، والحجاب ما يَفصل بين شيئين، وهو السُّور الفاصل بين أهل الجنة وأهلِ النار، قال تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَیۡنَهُم ‌بِسُورࣲ لَّهُ بَابُۢ﴾([3])، والأعراف: شُرفات في أعلى السور، مفرده عُرفٌ، ومنه عُرف الدِّيك، للريش في أعلى رأسه، وعُرف الفرَس، للشَّعر في أعلى رقبته، وعلى شُرفات أعلى السورِ المضروبِ بين الجنة والنار رجالُ الأعراف، يَرَوْن أهلَ الجنة وأهل النار.

واختُلفَ في رجال الأعراف مَن هم، فقيل: هم من استوت حسناتهم وسيئاتهم، يبقون في الأعراف إلى أن يقضي اللهُ فيهم بدخول الجنة، وقيل: هم عُدول مِن كل الأمم، يكونون في الشرفات على الأعراف، يُطلعهم الله على أهل الجنة وأهل النار، فيوبخون أهل النار، ويُذَّكِرُونهم بما كانوا عليه في الدنيا من الصَّلَف والعِناد، وبما هم عليه في ذلك الوقت مِن المذَلة والهوان، ويحيُّون أهلَ الجنة بالسلام، ويَدْعونَ لهم بدوام المقام، فيكون هذا مشهدًا من مشاهد القيامة لا يدوم، وهذان القولان أحسنُ ما جاء في تفسير الأعراف مِن أقوال عديدة غيرها([4]).

وعلى هذا فذِكر الرجال في قوله (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ) من بابِ التغليب لا التخصيص، فإن في النساء مَن قد استوت منهن السيئات والحسنات، وفيهن العدول (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ) السيما: العلامةُ، فلأهل الجنةِ علاماتٌ، كبَياضِ الوجوه والفرحِ والسرور، ولأهل النار علامات، كالغبرة والسواد وكلح الوجه والزرقة، قال تعالى: ﴿وُجُوهࣱ یَوۡمَئِذࣲ ‌مُّسۡفِرَةࣱ ضَاحِكَةࣱ مُّسۡتَبۡشِرَةࣱ وَوُجُوهࣱ یَوۡمَئِذٍ عَلَیۡهَا غَبَرَةࣱ تَرۡهَقُهَا قَتَرَةٌ أُو۟لَٰۤئِكَ هُمُ ٱلۡكَفَرَةُ ٱلۡفَجَرَةُ﴾([5])، وقال تعالى: ﴿وَنَحۡشُرُ ٱلۡمُجۡرِمِینَ یَوۡمَئِذࣲ ‌زُرۡقࣰا﴾([6])، وقال تعالى: ﴿یَوۡمَ تَبۡیَضُّ وُجُوهࣱ ‌وَتَسۡوَدُّ وُجُوهࣱ﴾([7])، وسيمَى أصلُ فعله وَسَم، وتقدم بيان ما وقع فيه من التغيير الصرفي في قوله تعالى: ﴿تَعۡرِفُهُم بِسِیمَٰهُمۡ لَا یَسۡءَلُونَ ٱلنَّاسَ ‌إِلۡحَافࣰاۗ﴾ في سورة البقرة([8]).

(وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ) أي: نادى أصحابُ الأعراف أهلَ الجنة، قالوا لهم في النداء: سلامٌ عليكم، فـ(أَنْ) تفسيرية لما في النداء من معنى القول دون حروفه، وقوله (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) يشير إلى أن أهل الجنة مراتب؛ منهم السابقون، ومنهم من يلحق بهم، لم يدخلوها بعد، ولكنهم يطمعون فيها ويَرْجون الدخول، ويكون طمعهم فيها ظهرت لهم أسبابه وعلاماته، أو الطمع في (يَطْمَعُونَ) بمعنى العلم واليقين بأنَّ أمرهم سيؤول إلى الجنة.

(وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ) أي: وإذا حُوِّلت وجوه أهل الأعراف لينظروا تِلقاءَ وِجْهَة مكان أصحابِ النار، تعوذُوا منهم، وحمدوا الله أن نجّاهم، ولم يجعلهم من القوم الظالمين، فـ(تِلقاءَ أصْحابِ النّار) أي: جهتهم، وهو ظرفٌ بمعنى المكان، وتِلقاء مصدر، وجاء من المصادر على هذا الوزن (تِفعال) بالكسر لفظان: تِلقاء وتِبيان، والباقي بفتح التاء كتَعداد وتَجوال وتَكرار، والتعبير بـ(صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ) يدل على أن أهل الأعراف ما كانوا يحبون أن ينظروا إلى أهل النار، وما هم فيه من الهول، ولذلك تَعوذوا منهم، فقالوا (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

 

[1])    سبأ:7.

[2])    الفرقان:5.

[3])    الحديد:13.

[4])    البيهقي في الشعب:374 ـ 376.

[5])    عبس:37 ـ 42.

[6])    طه: 102.

[7])    آل عمران: 106.

[8])    البقرة: 273.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق