المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (367)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (367)
[سورة الأعراف: 48-49](وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأَعۡرَافِ رِجَالٗا يَعۡرِفُونَهُم بِسِيمَىٰهُمۡ قَالُواْ مَآ أَغۡنَىٰ عَنكُمۡ جَمۡعُكُمۡ وَمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ أَهَٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَقۡسَمۡتُمۡ لَا يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحۡمَةٍۚ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَنتُمۡ تَحۡزَنُونَ)(48-49)
عندما تَحول أصحاب الأعراف بوجوههم إلى مشاهدة أصحاب النار، رَأَوْا رجالًا كانوا يعرفونهم بسيمى وعلاماتٍ لهم عَرفوها، وكانوا من السادة وأهل المَنعة والسلطان في الدنيا، فخاطبهم أصحاب الأعراف أو مَلَكٌ من الملائكة خطابَ تقريع وتوبيخ، قالوا لهم: ما أغنت عنكم وجاهاتُكم وسلطانكم، ولا الجموع التي كانت تُحيط بكم، وتخطُب ودَّكم، وتأتمر بأمركم، أين هي الآن، لا نراها معكم، وأنتم في أشد أوقات الهول؟ أين الكبرياء التي كُنتُم لا تعْبؤون معها بأحد؟ ما لنا نراكم في هذا الهوان أذلاء؟
والخطاب في قوله (أَقْسَمْتُمْ) للظلمةِ المتكبرينَ، الذين كانوا إذا سمِعُوا آيات القرآن تُبشرُ مَن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة من المستضعفين والفقراء، أمثال: عمار، وسلمان، وخُبَيب، وصُهَيب، وابن مسعود، كان المستكبرون يُقسمون على الله ـ استعلاءً وعُتوًّا ـ أنّه حتى لو كانت هناك جنة، فلن يدخلَها هؤلاء.
فهؤلاء الذين كانوا مستضعفين من المسلمين وأقسمتم أن الرحمة لن تنالهم، ها هم قد أصابتهم الرحمة ودخلوا الجنة، وها أنتم في عذاب النار مخلّدون.
وقد انتهى هذا المشهد بالدعاء لأهل الجنة، الذين كان يرونهم الكفرة ومن كان على مسلكهم من عصاة المسلمين كانوا يرونهم محرومين في الدنيا، وليس لهم وزنٌ يقال لهم (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ).
والاستهزاء بالمستضعفين كان دَيدَن الكفرة من قبل، فقد كانوا يستهزؤون بالأنبياء وبأتباعهم من الضعفاء، والفقراء.
وهذا الحكم على المستهزئين بالنار الوارد في الآية، يعمُّ كلَّ من فعل فعلهم من بعدهم، ممن يستهزؤون بالدِّين وبالعلماء، بل يقتلونهم، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، ويزدرون الفئة الصابرة على الحق، يحتقرونهم ويقولون عنهم كما كان يقول رؤوس الكفر في مكة عن المستضعفين، قالوا عنهم: حتى لو كان هناك جنة، فإنها لن تكون لهؤلاء، الذين كانوا يقولون عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم في وقاحة: ﴿وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِینَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِیَ ٱلرَّأۡیِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَیۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِینَ﴾([1])، وكانوا لجموحهم وغلوائهم يُقسمون على ذلك.
ونرى مثل هذا الاستخفاف بالدِّين وأهله، الذي قاله أهل الكفر في مكة للمستضعفين، يتكررُ بين الأمم في كل عصر، فإنك لا تعدَمُ في بلاد المسلمين اليَوْمَ مَن يقول بقولهم، ولهم في ذلك مسالكُ وأساليبُ أَشبهت الماضين، أو أشدَّ.
تراهم يُحذّرون الناسَ من المصلحين، ويُخوِّفون من تحكيم الشريعة، وأن تحكيمها يُنغّص على الناس حياتهم، ويُضيقُ عليهم عيشَهم، ويَحُدّ من حرياتهم الشهوانية، التي لا تخضع لحدٍّ ولا تقفُ عند طمع.
والقائمون بهذا الصدِّ عن سبيل الله ودينه، عادةً يملكون خزائن الأموال، يُنفقون أموالهم ليصدوا بها عن سبيل الله، ويملكون الجاه والنفوذ والإعلام، ودعم الدُّول، يُسخِّرون كل هذا السلطان في الغَواية والضلالة، يَتَنَقَّصون من خلاله العلماء والدعاة، والضعفاء، والمحاصرين في بلدانهم من أعداء الدين، والمضيق عليهم، ومن يَبذلون مهجهم لله ولدينه، ومن يَسعون الليل والنهار جهدهم لإصلاح ما فسد؛ لأجل راحة أمتهم وبني قومهم؛ لتسودَ فيهم شريعة الله وعدله ورحمته وحكمه، ويَشعر الناس جميعًا بالراحة والأمن، وكرامة الإنسان التي حُرموها أعوامًا طويلة.
ويَتحمل المصلحون والدعاة – في سبيل تحقيق تلك القيم والذود عنها – التهجيرَ والطردَ من البلدان، فصاروا في بلدان المسلمين كالبعير الأجرب، لا يقبَلونهم، وإن قَبِلوهم فبشرطِ تكميمِ أفواههم، والدخولِ في بيت الطاعة.
ترى المصلحين اليَوْمَ يعانون من التهجير والجوع والفاقة والمرض، والتضييق والحصار، وشدة العيش وضَنْك الحياة، وتألُّبِ الظلمة من بني جلدتهم عليهم، يَتربصون بهم الدوائر، ويَرصدون لهم كل مرصد، يُسفهونهم، ويَسخرون منهم، ويُسلطون عليهم جند إبليس، في وسائل النشر والإعلام، المأجورة بالأموال الفاسدة؛ لهدم الدِّين، وتدنيس البلاد.
يَرمون العلماء والدعاة وأبناء البلد الأوفياء بكل نقيصة، يَرمونهم بالظلامية والتحجر، وبكل كذب وفرية، ويَختارون من ذلك في كلّ وقت ما له قَبول واستحسانٌ عند أسيادهم، يَرمون مَن يَبذلون أرواحهم وأوقاتهم لله بالجهل والغفلة والتخلّف، أو يُكفرونهم، ويرمونهم بالتشدّد، وأن الذي يفعلونه من الدفاع عن دينهم وأوطانهم هو اجتهادٌ خاطئٌ في زعمهم، وليس من ورائه طائل، يُخوفونهم عاقبته، وأنه لا يَجلُب على بلدانهم إلا الخراب والدمار.
يُرددون بذلك ما قذف به أعداؤهم في قلوبهم من الوهن؛ لأن الكفرة اجتمعت كلمتهم على أن لا يسمحوا بعد الآن لبلاد المسلمين أن تملك أمرها، ولشدة استسلام هؤلاء لأعدائهم، ولشعورهم بالصَّغار؛ بسببِ ما رأوه مما فعلوه ببعض بلاد المسلمين، أَيَّسوهم من إصلاح بلدانهم، وإقامة دينهم، فصار هذا الهاجس لديهم كاليقين، وهو إمَّا أن يكون على بلاد المسلمين حكامٌ قراراتهم المصيرية في أيدي أعدائهم، وليست بأيديهم، أو الأسوأ من ذلك أن يكون المُنصَّبون عملاء لهم، يقتلون شعوبهم، ويدمرون بلدانهم، وإما أن يُدمرها الأعداء أنفسُهم، بطائراتهم وبارجاتهم.
فاستسلم السادة الذين ارتبطت مصالحهم بإملاءات الأعداء، واختاروا أن تعيش بلادهم مدنسة محكومة بالعملاء، يَقتلون من شاءُوا، ويَمنُّون على من شاءُوا، وما جَرّأَ عدوَّهم عليهم على هذا النحو إلا بسبب العمالة والخياناتِ، التي ظهرت من بعضهم، وبيع بلدانِهم لأعدائهم.
و(مَا) في قوله (مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ) يصح أن تكون استفهامية، وأن تكون نافية، والاستفهام في قوله (أَهَؤُلَآءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) تقريريٌّ للتقريع، والإشارة بـ(هَؤُلَآءِ) إلى من يرونهم من أهل الجنة، وكانوا في الدنيا مستضعَفين.
وقوله (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) يحتمل أن يكون هذا من كلام الله تعالى لزمرةٍ من أهل الجنة، أُمرت بدخول الجنة؛ لأنها لم تَدخلْ بَعد، ويحتملُ أن يكون من كلام أصحابِ الأعراف لأهل الجنة، أمثال مَن تقدمَ ذكرهم مِن المستضعفين، خطابٌ لهم وهم بداخلها، دعاءٌ لهم؛ دامَ دخولُكم فيها، وطابَ هناؤُكم، فلا حِوَل لكم عنها، ولا خوفَ عليكم في المستقبل، ولا حزنَ يلحقُكم بشيءٍ فاتَكم، وفيه زيادةُ إغاظة للمتكبرين.
[1]) هود:27.