طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (368)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (368)

[سورة الأعراف: 50-53]

(وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَنۡ أَفِيضُواْ عَلَيۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ أَوۡ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُۚ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَهۡوٗا وَلَعِبٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ فَٱلۡيَوۡمَ نَنسَىٰهُمۡ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوۡمِهِمۡ هَٰذَا وَمَا كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَجۡحَدُونَ)(50-51)

النداء هذه المرة صادر من أصحاب النار، الذين هم فيها عطاشا كالِحون، يطلبون من أهل الجنة (أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ)، و(أَنْ) في (أَنْ أَفِيضُوا) تفسيريّة كما تقدم في نظيرها، و(أَفِيضُواْ) من الإفاضة، وهي الصب بقوة وسخاء ووفرة، عَبَّروا بذلك؛ لشدة ما أصابهم من حر النار ولظاها وعطشها، و(مِن) في: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ) وفي: (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) يصح أن تكون بيانية وأن تكون تبعيضية، فعلى أنها بيانية في الموضعين يكون المعنى: أفيضوا علينا الماء، واغمُرونا به بوفرة، أو اغمُرونا بوافر من الرزق.

وعلى أنها تبعيضية يكون المعنى: صُبوا علينا ماءً من بعض ما عندكم، ويُقدر فعل يتعلق به قوله: (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) يناسب الرزق، أي: أفيضوا علينا من الماء وأطعمونا مما رزقكم الله على حد قوله:

عَلفتُها تبنًا وماءً باردًا … حتى شَتَتْ هَمّالةً عَيْناها

أي: علفتُها تبنًا وسقيتُها ماءً باردا.

أجاب أصحاب الجنة فقالوا: إن الله حرم الماء والرزق ومنعهما على الكافرين، فالتحريم بمعنى المنع، كما في قوله: ﴿‌وَحَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَاۤ أَنَّهُمۡ لَا یَرۡجِعُونَ﴾([1])؛ لأنه لا تكليف بالحلال والحرام في ذلك الوقت.

ثم وُصِف الكفرة والمشركون بأنهم (اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا)، أي تَعلقوا بمعبوداتهم وبباطلهم من زخرف الحياة، التي جعلوها رأسَ مالهم، وكلَّ همهم، ومَبلغَ علمهم، حتى ملكتْ عليهم قلوبهم، وأحبوها حبا شديدا، وأحبوا كل ما توارثوه من انحراف العقائد، فكانوا في تعلقهم بباطلهم ـ الذي هو لهوٌ ولعبٌ ارتاحت له نفوسهم ـ كتعلق المسلمين بدينهم.

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيَا) انخدعوا بما فيها من زيف، فألهاهم عن الحق وقوله (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) عطف على قول أهل الجنة (إن الله حرمهما على الكافرين) والفاء فيه للتفريع، والقائل: (فاليوم ننساهم) هو الله تبارك وتعالى، حكاه أهل الجنة عن الله

ومعنى نَنسَاهُمْ: نتركهم ونهمل أمرهم، ولا نستجيب لهم في شيء، والكاف في قوله (كما نسوا لقاء يومهم هذا) للتشبيه، وفيها معنى التعليل، كما في قوله: ﴿‌وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ﴾([2])، أي كما أنهم أَعرضوا عما أُمروا به، ولَم يُصدقوا بلقاء هذا الْيَوْم في القيامة، وكَذبوا بالآيات، وجحدوا بها، فإننا ننساهم ونعرض عنهم، فالجزاء من جنس العمل، و(ما) في الموضعين في قوله (كَمَا نَسُواْ) وقوله (وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا) مصدريةٌ، والباء في (بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) للسببية، أي هذا جزاؤهم بسبب نسيانهم، وتكذيبهم بآيات الله ولقائه.

(وَلَقَدۡ جِئۡنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلۡنَٰهُ عَلَىٰ عِلۡمٍ هُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ يَوۡمَ يَأۡتِي تَأۡوِيلُهُۥ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشۡفَعُواْ لَنَآ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ)(52-53)

بعد أن ذكر الله تعالى الحالة التي يكون عليها المشركون في النار، وأنهم اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، ذَكر ما كانوا عليه في الدنيا من عنادٍ وتكذيبٍ للكتاب، الذي جاءهم مُفصَّلا ومُبيَّنا من عند الله، ولو اتبعوه لاهتدوا.

فقال: ماذا ينتظر المكذبون؟ وقد جاءتهم كل آية، وجاءهم الكتاب مُفصَّلا، ما بقي لهم شيءٌ ينتظرونه سوى نزول العذاب بهم، وهم في الواقع لا ينتظرون العذاب، ولا يخافونه، ولا يُلقون له بالًا، فهم جاحدون له، ولو كانوا ينتظرونه انتظار المشفق الخائف لآمنوا، ولكن جاء هذا القول: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) على سبيل التهكم بهم والتهديد، فإن من كان في مثل حالهم، لو كان له عقل، لا ينتظر تأويل الكتاب وتفسير معانيه فقد جاءه مفصلاً، وإنما ينتظر حلول العذاب به في كل لحظة، كما يَتوقع المنتظر لشيء يرجو حدوثه أو يخافه، والاستثناء في قوله (إِلاَّ تَأْوِيلَهُ) استثناءٌ من عموم الأشياء، لا ينتظرون شيئًا من الأشياء إلا شيئًا واحدًا، وهو ما يؤول إليه أمرهم من حلول العذاب وهو معنى آخر (لتأويله).

فالكتاب في قوله (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ) هو القرآن، وتنكيره للتعظيم، جئناهم بكتاب عظيم، وأَكّد مجيئه لهم بمؤكدين: اللام وقد، مع أنهم يَعرفونه، ويُقرّون بمجيئه إليهم، ولكنهم لتكذيبهم وعدم عملهم به نُزلوا منزلة المنكر لمجيئه إليهم، و(فَصَّلْنَاهُ) بَيَّنا فيه ما يحتاجون إليه، وما يحتاج إليه غيرهم، من عقائد وأحكام ومواعظ وأخبار، والجار والمجرور في قوله (عَلَى عِلْمٍ) ظرف مستقر في محلّ الحال، وتنكير (عِلْمٍ) للتعظيم، أي جئناهم بكتاب فصلناه حالة كون التفصيل على علمٍ كامل منا، لا يسبقه جهل، ولا يعتريه خطأٌ ولا خللٌ، وهو دليل على اتصافه سبحانه بصفة العلم، وأنه يعلم بعلم، خلافا للقدرية.

و(هُدىً وَرَحْمَةً) حالان من الكتاب، حالة كون الكتاب هداية لهم، يجلب لهم الخير والرحمة، وهدايته ورحمته للمؤمنين الذين أقبلوا عليه، لا لمن أعرض عنه، والاستفهام في قوله: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ) إنكاري بمعنى النفي، بدليل وقوع الاستثناء بعده، وينظرون بمعنى ينتظرون، لا من نظر الرؤية.

والضمير في قوله (إِلاَّ تَأْوِيلَهُ) للقرآن، وتأويله له معنيان: الأول بمعنى تفسيره وتوضيحه، والثاني: ما يَؤولُ إليه الأمر من تحققِ الوعيد للمكذبين، والتوضيح والتفسير الذي ينتظرونَه للقرآن، ليس التوضيح والبيان المعهود، فذلك قد بُيِّن لهم أتمّ بيان، ولكن الذي ينتظرونَه هو نزول ما تَوعدهم الله به من العذاب الذي توعدهم به القرآن ومعاينته.

(يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) وهو يوم القيامة، يوم يأتيهم تفسيرُ ما توعدهم الله به تفسيرًا عمليًّا، وينزل بهم العذاب (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ) أي يقول الذين نسوا الكتاب في الدنيا قبل هذا الْيَوْم، وأعرضوا عنه.

(قَدْ جَآءَتْ  رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) أي حينها في القيامة يقولون هذا القول (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فيُؤمنون ويُقرّون بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم حقٌّ، ويُقرون أنَّ كل رسل الله حقّ، وكانوا في الدنيا يقولون: ﴿مَا جَاۤءَنَا ‌مِنۢ ‌بَشِیرࣲ وَلَا نَذِیرࣲ﴾([3])، ويقولون: ﴿مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ ‌عَلَىٰ ‌بَشَرࣲ مِّن شَیۡءࣲ﴾([4])، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُبين لهم الإيمان ويُفصله، وهو أن يؤمنوا برسل الله جميعًا، كما في حديث جِبْرِيل: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)([5])، وفي ذلك الوقت لا ينفعهم شيء، فقولهم (قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) قول النادم المتحسر، المعترف بالذنب بعد فوات الأوان، لا قول المؤمن الذي كان عنده الخِيار فينفعه إقراره.

و(قبلُ) في قوله (نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) مبنية على الضم، والمضاف إليه محذوف، تقديره: نسوه قبل القيامة ونزول العذاب بهم.

والاستفهام منهم في قوله (فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ) ليس حقيقيًّا؛ لأنهم يائسون، بل هو استفهام تمنٍّ وندم وتحسر، فقد انسدّت عليهم السبل، وضاقت بهم الحيل، فيقولون شيئًا يُنفسون به عن أنفسهم، يعرفون أنه لا ينفعهم، ولكن المكروب يَفترض لنفسه من الحلول للتنفيس حتى ما كان مستحيلًا؛ لأنه يُعبر عما يتمناه، لا ما هو ممكن، يقولون (هَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ) ويقصدون الأوثان، فإنهم كانوا يقولون عنها: ﴿هَٰۤؤُلَاۤءِ ‌شُفَعَٰۤؤُنَا ‌عِندَ ٱللَّهِ﴾([6])، ولكنهم رأوها تركَتْهم، وقالوا عنها: ﴿‌ضَلُّوا۟ ‌عَنَّا﴾([7])، وقالوا: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِینَ وَلَا ‌صَدِیقٍ ‌حَمِیمࣲ﴾([8]).

فالشفعاء: جمع شافع، وهو من تكون له وَجَاهة، يُستعمل واسطةً في قضاء الحوائج.

(أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) التقدير: هل لنا من شفعاء؟ أو هل نرد إلى الدنيا لنؤمن؟

فطلبوا الرد إلى الدنيا مرة ثانية؛ ليُحسنوا العمل، وعلى رأسه عمل القلب، وهو صحة الاعتقاد، زعموا أنهم لو ردوا لآمنوا، وأخبر الله تعالى أنهم حتى في هذه كاذبون، فقال: ﴿وَلَوۡ ‌رُدُّوا۟ ‌لَعَادُوا۟ لِمَا نُهُوا۟ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ﴾([9]).

فـ(أَوْ) في قوله (أَوْ نُرَدُّ) مانعة جمع؛ لأنه إن حصلت لهم الشفاعة، فلا حاجة للرد إلى الدنيا، وإن حصل الرد إلى الدنيا لا حاجة إلى الشفاعة.

(قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) هذه هي النتيجة التي انتهَوا إليها، خسرُوا رأسَ مالهم، خسِروا أعزَّ ما عندهم، وهو أنفسُهم، فأوبقُوها وأدخلوها النارَ بإعراضِهم وعنادهم، فهذا الذي ينتظرهم، ولا ينتظرهم غيره، وخسارتهم فيها لا يعوضها شيءٌ.

(وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) أي ذهب الباطل، وذهبت افتراءاتهم على الله ورسوله؛ فتكذيب الرسول، وعبادة الأصنام، والاستهزاء بالدّين، كله ذهبَ واضمحلَّ، وضلّ وذهب عنهم، فليس له حقيقة ولا وجود، ولم يجدوا منه شيئًا يتمسكون به، يدافعون به عن أنفسهم، قال تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌ٱلۡبَٰطِلَ ‌كَانَ ‌زَهُوقࣰا﴾([10]).

 

[1])    الأنبياء:95.

[2])    البقرة:198.

[3])    المائدة:19.

[4])    الأنعام:91.

[5])    مسلم: 8.

[6])    يونس:18.

[7])    الأعراف:37.

[8])    الشعراء:100 ـ 101.

[9])    الأنعام:28.

[10])  الإسراء:81.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق