المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (369)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (369)
[سورة الأعراف: 54]
[الأعراف: 54، إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ]
ﵟإِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۭ بِأَمۡرِهِ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَﵞ
تأكيدُ الجملة بـ(إِنَّ) في قوله (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) لتأكيد الخبر وهو قوله (الله)؛ لأن المشركين كانوا يُقرون بربوبية الله، ويُنكرون أنه الله المعبود؛ ليعبدوا غيره، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُ﴾([1])، والمعنى: فربكم الذي خلق السموات والأرض هو الله، الذي يجب أن تُفردوه وحده بالعبادة، ولا تشركوا به شيئًا.
فالرَّبُّ هو المصلح أمرَ خلقِه، فالربوبية ترجع إلى أن الله وحده هوالذي يخلُقُ ويرزقُ ويعطي ويمنعُ، فهو خالقُ الخلق جميعًا، والله: اسم الجلالة معناه المعبود، فلا معبود بحق سواه، والخطاب فِي قوله (رَبَّكُمُ) عام، يدخل فيه المسلم والكافر، فيدخل فيه المشركون الذين عَبدوا مع الله غيره دخولا أوليا.
وقوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) جمع يوم، والْيَوْم في اللغة هو الوقت، وعرفًا: هو الزمن من طلوع الشمس من المشرق إلى غيابها في الأفق عند المغرب.
وهذا الْيَوْم المعهود هو غير مَعْنيًّ قطعًا؛ لأنه عند خلق السموات والأرض ليس هناك شمس ولا ليل، فيمكن أن يكون معنى اليوم وقت مقدر بهذه المدة التي تقدر بالنهار المعهود، ويمكن أن يكون اليوم هو يوم من أيام ربك، الذي ذكر القرآن أنه كألف سنة من أيام الدنيا، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ یَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةࣲ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾([2]).
وأيّا ما كان معنى اليوم في الآية، فالله سبحانه قادر أن يخلق السموات والأرض في لحظة واحدة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُۥۤ إِذَاۤ أَرَادَ شَیۡءًا أَن یَقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ﴾([3])، ولعل الحكمة من ذكر المدة هي الإرشاد إلى التدرج، الذي هو مُهم في حياة الناس لتحصيل الأمور والوصول إليها فإنهم أحيانا إذا طَلبوا الشيء في التو والحين جملة فقدوه جملة، فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وقد ذكرت عائشة هذا المعنى في الحكمة من التدرج عند تحريم الخمر([4]).
والستة الأيام فَصَّلها الله تعالى في سورة فصلت: ﴿قُلۡ أَئِنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ فِی یَوۡمَیۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُ أَندَادࣰاۚ ذَٰلِكَ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِینَ وَجَعَلَ فِیهَا رَوَٰسِیَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِیهَا وَقَدَّرَ فِیهَاۤ أَقۡوَٰتَهَا فِیۤ أَرۡبَعَةِ أَیَّامࣲ سَوَاۤءࣰ لِّلسَّاۤئِلِینَ﴾ ([5])، ثم قال: ﴿ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ وَهِیَ دُخَانࣱ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِیَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهࣰا قَالَتَاۤ أَتَیۡنَا طَاۤئِعِینَ فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتࣲ فِی یَوۡمَیۡنِ﴾ ([6])، فأَخبر أنه خلقَ الأرض في يومين، وقَدَّر فيها أقواتها وأرزاقها في يومين، فقوله: ﴿فِیۤ أَرۡبَعَةِ أَیَّامࣲ﴾ أي مع اليومين الأُوليين، والترتيب في قوله: ﴿ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ﴾ هو ترتيبٌ رتبي في الذكر لا في الوجود؛ لأن خلق السموات كان قبلَ خلق الأرض، كما جاء في الصحيح عن النبي ﷺ: (كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ)([7]).
(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) العَرْش: مخلوقٌ عظيمٌ، محيطٌ بالسماوات والأرض، لا يعلم عظمته وكنهه إلا الله، قيل: هو الكرسي في قوله: ﴿وَسِعَ كُرۡسِیُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ﴾ ([8])، وقيل: الكرسيُّ تحت العرش، وقد ورد عن عظمة الكرسي والعرش عن النبي ﷺ قوله: (مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ) ([9]).
والاستواء على العرش صفة من صفات الله، فهو سبحانه على عرشه كما أخبر عن نفسه، دون توصيفٍ ولا تكييفٍ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، قال مالك عندما سُئل: كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معلوم، وقال للسائل: لا أراك إلا صاحبَ بدعة، أو صاحبَ سوء([10])، وكلام الإمام مالك هذا صار قاعدة عند العلماء في باب الصفات.
و(يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ) من الغَشْي والغَشَيان، وهو السَّتر والتغطية، فكل من الليل والنهار يطلب الآخر طلبًا حثيثًا مسرعًا وراءه، يدركه فيغطيه ويمحوه، وهكذا يتكررُ الأمر دواليك إلى ما شاء الله.
فالليل والنهار مفعولان للفعل يُغشي، وكل منهما يصلح أن يكون طالبًا ومطلوبًا، أي مفعولًا أولَ، أو مفعولًا ثانيًا و(حَثِيثًا) سريعًا، فَعِيل بمعنى مفعول، من الحث، وهو الإعجال، أي يطلب كل منهما الآخر طلبا معجلا ليعقبه.
وجملة (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) عطف على السماوات والأرض، أي خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم، و(مُسَخَّرَاتٍ) مُسَيَّراتٍ تقوم بوظائفها طاعة لأمْر الله، وَفْقًا لإرادته.
و(أَلَا) في (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) حرف استفتاح، يشعر بأهمية ما يأتي بعده، و(الْخَلْقُ) إيجاد الموجودات، و(الْأَمْرُ) تدبيرها وتسييرها، فهو خالق الموجودات ومدبرها ومسيرها. واللام في (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) للاختصاص والمُلك، فالإرادة والتدبير لكل المخلوقات لإرادة الله ومشيئته وحده، لا يشاركه فيها غيره.
(تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أي كثر خير الله رب العالمين، فتبارك من البركة، وهي كثرةُ الخير، ووفرته، وثباته، وبقاؤه، و(تَبَارَكَ اللهُ) ظهرت بركاته وخيره على جميع خلقه، فالله قيوم السماوات والأرض وما فيهنّ من الخلائق مصلح أمرهم، ومدبر شأنهم، سبحانه، فهو ربّ العالمين.
[1]) الزمر:38.
[2]) الحج:47.
[3]) يس:82.
[4]) مسلم: 4993.
[5]) فصلت:8 ـ 10.
[6]) فصلت:11 ـ 12.
[7]) البخاري:7418.
[8]) البقرة: 255.
[9]) صحيح ابن حبان: 807.
[10]) الجامع لمسائل المدونة: 24/43، والذخيرة: 13/242.