المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (370)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (370)
[سورة الأعراف: 55-56]
[الأعراف: 55-56، ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ]
ﵟٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفٗا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَﵞ
بعد ما ذَكرت الآيات أنّ اللهَ هو مبدئ السماوات والأرض، وجاعلُ الليل والنهار، وأنّه له الخلق والأمر، ذَكرت أنّ مِن كمال إحسانه لخلقه أنْ طلبَ منهم التقرّبَ إليه بالدّعاء، وأنّ مِن أسباب قَبوله أن يكونَ باستكانة وتضرع، فقال (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
فقوله: (رَبَّكُمْ) بذكر اسم الرَّبِّ، دون لفظ الجلالة، إطماعٌ لعباده في إجابة دعائهم، فإن من معاني الرَّبِّ القيام بشؤون المربوبين، وإصلاحهم، ومراعاة أمرهم، وهو ما يناسب إجابة الدعاء، وفي إضافة اسم الرب إلى ضمير عباده (ربكم) تشريفٌ لهم، وترفيعٌ لشأنهم، والخطاب في قوله: (ادْعُواْ) للمؤمنين؛ لتعليمهم أدب الدعاء، ولأنهم هم المتعبِدون بالدعاء دون غيرهم و(تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) منصوبان على الحال، بتأويل: مُتضرعين مُخفين دعاءكم.
والتضرع: التذلل والانكسار، وهو الشعور الجازم بأن الحاجة المطلوبة في الدعاء هي على الحقيقة بيد الله وحده، لا بيد غيره، وقوله: (خُفْيَةً) معناه أن الإسرار بالدعاء بين العبد وربّه أفضل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص، وقد قال الله في وصف دعاء نبيه زكرياء: ﴿إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَاۤءً خَفِیࣰّا﴾ ([1])، ولأنه أبعدُ عن التكلف، إلا إذا أَمِن الداعي على نفسه من تغير القلب، وألا تتحولَ نفسه من التعلق بربه إلى الانشغال بمن يسمعونَ دعاءه، وارتيَاحِه لاستحسانهم دعاءه، فإن أَمِن ذلك، كما كانت هي حالة النبي ﷺ في دعائه، فيستوي حينها الجهر والسر، وربما كانت في الجهر فضيلة التعليم، وإظهار الضراعة.
وقد دعا ﷺ سرًّا وجهرًا، وكان في جهره ﷺ بالدعاء معنى التشريع والتعليم، فقد دعا جَهْرًا لبعض أصحابه([2])، وكذلك في الاستسقاء([3])، وفي القنوت على الكفرة([4])، ويوم بدر([5])، ومن جهره بالدعاء تعلمنا بعض أدعيته ﷺ، فعند صِدْقِ التوجه، والأمن على النفس من التكلف والانشغال بغير الله، لا يخفى أن الجهر بإظهار التذلل والجهر بالحاجة إلى الله هو في ذاته عبادة.
وجملة (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) تعليلية، ادعوه تضرعًا؛ لأنه لا يحب المعتدين، والاعتداء: أصله التجاوز في كل شيء، وهو في الدعاء الخروج عمَّا شرعه الله كالرياء، أو طلب ما لا يجوز طلبه؛ كطلب الصعود إلى السماء، أو طلب منزلة الأنبياء.
ومن الاعتداء الإسهابُ والاسترسال في الدعاء، وتكلفُ السجع، ومنه التعمق في الطلب، فقد جاء أَنَّ عَبدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ، إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَعُذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ)([6]).
وكلما كان الدعاء على السجية، بعيدًا عن السجع والتكلف، كان أقرب، وقد قال الأعرابي للنبي ﷺ: (..أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ)([7]).
وقوله (وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) أي لا تفسدوا فيها بالكفر والمعاصي، وبالظلم والجَوْر في الحكم، والبغي، وإخافة الناس وسلب أموالهم، وانتهاك حرماتهم، وإعانة أعدائهم من غير المسلمين عليهم، بعد أن أصلحها الله بالإيمان، وبعثة النبي ﷺ، وإنزال الشريعة، وبيان الأحكام بالعدل والقسطاس.
و(خَوْفًا وَطَمَعًا) منصوبان على الحال، ادعوه مجتهدين في الدعاء، خائفين ألَّا يجيبَ دعاءكم، أو أن ينزلَ بكم عذابه، وادعوه طامعين في الإجابة، وفِي ثوابه وعطائه، وكونوا بين الخوفِ والرجاء.
والحازم في عبادة ربه، عليهِ في وقتِ الصحةِ والقوةِ أن يُغلبَ الخوفَ مِن عذابِ الله على الرجاء، وفِي الضعفِ والعجزِ يغلب الرجاء في واسعِ رحمته، فيكملُ بذلك إيمانه.
(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) فإذا تضرعتم إليه خوفًا وطمعًا، واجتنبتم ما نُهيتم عنه من الفساد، وفعلتم ما أُمرتم به من العدل والإصلاح، كُنتُم من المحسنين، وأهلًا للإجابة وللقرب منه، وأن تتنزل عليكم رحماته، وقد أفادت الآية أن مما يُتوسل به إلى إجابة الدعاء الإحسان في القول والعمل، فإنَّ تعليق الحكم بالمشتق في قوله (قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) يؤذنُ بعِلِّية ما منه الاشتقاق وهو أن الإحسان سبب للقرب من الله.
وقوله: (قَرِيبٌ) لفظهُ مذكر، صفةٌ للرحمة وهي مؤنث؟! على معنى: موضع رحمة الله قريب قالوا لأن (قريب) و(بعيد) في غير قرابة النسبِ أكثر استعماله لزوم التذكيرِ على التأويلِ بالمكان، أي موضع رحمة الله قريب كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِیبًا﴾([8])، وقوله: ﴿وَمَا هِیَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِینَ بِبَعِیدࣲ﴾([9])، قالوا وما كان من القرابة بمعنى قرابة النسب يؤنثُ مع المؤنث، فيقال: فلانٌ قريبي وفلانة قريبتي، وقيل في توجيه (إن رحمة الله قريب) غير ذلك.
[1]) مريم: 3.
[2]) البخاري:3795، 6363.
[3]) البخاري: 1023.
[4]) مسلم: 1485.
[5]) مسلم: 1794.
[6]) سنن ابن ماجه: 3864.
[7]) سنن أبي داود: 792.
[8]) الأحزاب:63.
[9]) هود:83.