طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (372)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (372)

[سورة الأعراف: 59-64]

(لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِ فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ قَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ قَالَ يَٰقَوۡمِ لَيۡسَ بِي ضَلَٰلَةٞ وَلَٰكِنِّي رَسُولٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمۡ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ)(59-62)

هذا انتقالٌ إلى أخبار الأمم الماضية مع أنبيائهم؛ تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما يلاقيه هو وأصحابه من صدود المشركين وأذاهم، فإن المسلمين إذا علموا ما أصاب الأنبياء قبلهم مِن أقوامهم هانَ الأمرُ عليهم، وتأسوا بهم كما قال تعالى: ﴿وَكُلࣰّا نَّقُصُّ عَلَیۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ ٱلرُّسُلِ ‌مَا ‌نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾([1]).

فأخبر الله تعالى في هذه الآية بإرسال نوح إلى قومه، وأكدَ الخبر بمؤكِّدين (اللام) و(قد)؛ لأنَّ المشركين كانوا مكذبين لرسالات الأنبياء، وقد ذكر القرآن في سورة العنكبوت([2])؛ أنَّ نوحًا لبثَ في قومه ألفَ سنة إلا خمسينَ عامًا، وكان قومُه وثنيّينَ، اخترعوا عبادة الأصنام، وأصلُ عبادتهم الأصنام – كما في حديث ابن عباس([3]) – أنه كان لديهم ناس صالحون، صوروا لهم صورًا، واحتفظوا بها، فلمَّا قَدُم العهد عبدوهم، فقال أبناؤهم تبريرًا لأفعالهم: ما احتفظَ آباؤُنا بهذه الصورِ إلَّا لأنهم كانوا يعبدونَهم، فعبَدُوهم.

واللام في قوله (لَقَدْ أَرْسَلْنَا) واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: وعزتي لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه، وناداهم نوحٌ نداءَ المشفق عليهم، كما يُشفقُ الرجل على خاصتِه وجماعته؛ ليشعرَهم بحرصه وخوفه عليهم، وذلك رجاء إيمانهم، فقال (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ليس لكم إله إلا الله، وإني مشفق، أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، عذاب النار في القيامة، فهو يوم عظيم؛ لأن به فصل القضاء، ولأن عذابه للمكذبين عظيم، لا يُطاق، ونعيمه للمتقين مقيم لا ينفد، أو أخافُ عليكم عذاب الدنيا في يوم الطوفان، الذي أعلمَه الله به عندما أمره أن يصنع الفلك.

والملأ في قوله (قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ) أشرافُ القوم ووجهاؤهم، الذين يتصدَّرونَ ويتكلمونَ باسمهم، ويدافعون عنهم، وهم الرؤوسُ الضالِعة في الكفر، فهم الذين يسارعون عادة بردّ دعوة الأنبياء والمصلحين، وتكذيبها بالزيف واللَّجاج، الذي ينطلي على الأتباع والرِّعَاع، ويُضلِّلهم؛ لضعف عارضتهم ومداركهم، فماذَا قال الملأ من رؤوس الكفر، وهم يسمعون دعوة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟ قالوا على الفور، دون نظر وتأمل فيما قاله لهم نبيهم، وبدون دليل ولا برهان، بل مجرد تخرص، قالوا (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) أي إنّ ابتعادك عن الهداية والصراط القويم بيّن واضح، فلا تتعب نفسك معنا، فلن نتبعَك، ولا تنشغل بأمرنا، وأكدُوا قولهم بـ(إنّ، واللام).

والرؤية في قوله (نَرَاكَ) بمعنى العلم واليقين والجزم، استندوا إلى تخمينهم الذي لا مصدر لهم فيه سوى التخرُّص والظن الكاذب، وسمَّوه علمًا، والضَّلال خلافُ الهدَى، وهو هنا جنس الضَّلال، والْمُبِين: البَيِّن الواضح، مِن: أَبَان.

ثم خاطبهم مرة أخرى بـ(يَا قَوْمِ) خطابَ تلطفٍ وتألفٍ، يستنزلُ قبولهم لندائه؛ ليستلَّ سخيمة قلوبهم فقال لهم يا قوم (لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) أي ليس بي شيء من الضَّلال، لا كثير ولا قليل، والضَّلالة واحدة الضَّلال، ونَفْي الواحدة يستلزم نفي الجنس، فنَفَى بذلك الضلال عنه على أبلغ وجه.

والاستدراكُ في قوله (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) لرفع توهم أنَّه وإنِ انتفت عنه الضلالة، فإنه ليسَ برسول، فجاء الاستدراك لرفع هذا التوهم؛ لأنه لا يلزمُ من نفي الضلالةِ أن يكونَ رسولًا.

وقوله (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أي أبلغُكم رسالات ربي وأحذِّرُكم عاقبة مخالفتها، والنصْحُ في قوله (وَأَنصَحُ لَكُمْ) الكلامُ المتمحِّض النفْع للمنصوح، بما يعود عليه من خيرَي الدنيا والآخرة، ولا يعودُ على الرسول منه نفعٌ في خاصةِ نفسه، إلَّا ما يرجُوه مِن مولاهُ مِن أجرِ الآخرة.

واللام في (لَكُمْ) للاختصاص، فهو ناصحٌ، ونصحه لهم لا لغيرهم، وقوله (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) بمعنى: لا تغتروا بعقولكم، وتَدَّعوا العلم بما لا تَعلمونه، وتكذبوا الوحي، فتهْلِكوا؛ لأني أعلم من وحي الله مما يصيبكم من عذاب الدنيا بالطوفان والغرق، ومن عذاب الآخرة بالنار إن كذبتم، وأعلم منه أيضًا ما يصيبكم من الرحمة ودخول الجنة – إن آمَنتُم – ما لا تعلَمون، فلا تعاندوا فتندموا، وهذا هو النصح بعينه.

والجمل في قوله (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي…) وما بعدَها صفاتٌ لنوح عليه السلامُ، باعتبارهِ رسولًا مِن عند الله، أو هي خبرٌ وراء خبر بعدَ قوله (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

ورسالةُ نوح رسالةٌ واحدةٌ وجاءتْ بلفظ الجمع (رِسَالَاتِ)؛ وذلك باعتبار رسالتِهِ ورسالات الأنبياء بعده؛ لأنه أول الأنبياء وأصلهم.

(أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا عَمِينَ)(63-64)

جملة (أَوَعَجِبْتُمْ) عطفٌ على فعل مقدّر، أي: أَكَذبْتُم وعجِبْتُم؟ فالاستفهام في (أَوَعَجِبْتُمْ) إنكاري، والواوُ بعد همزة الاستفهام للعطف.

و(عَجِبْتُمْ) من التعجُّب، وهو الاستغراب والاستبعاد، أي: كيف يتعجبون أن يُنزَّل عليهم وحيٌ، يرسلُ اللهُ به إليهم رجلًا من بينهم، رسولًا يبلغهم رسالاتِ ربه، رسولًا من بعض رجالهم، يتكلمُ بلغتهم، يعرفونَه ويعرفُهم، لا يُحَوجُهم إلى تَرجمان، ولا إلى تكلُّفِ ما يشقُّ عليهم في التواصُل معه، فيخوفُهم عاقبةَ كفرهم، ويبشرُ مَن اتقى بالمغفرة والرحمة.

وما تعجَّبُوا منهُ واستبعَدُوه، كان حَرِيًّا بهم – لو كانوا يعقلونَ – أن يجعلوه مَدعاة للتصديق والقَبول؛ لأنَّ الله لم يشُقَّ عليهم، فيرسل لهم مَن لا يفهَمون خطابَه، أو مَن لا يجانسُهم، فلا يقدِرون أن يرَوهُ ولا يجالسُوه، كما كان أمثالهم مِن المكذبين مع الأنبياء، يطلبونَ أن يُنزل الله عليهم مَلَكا رسولًا، ويقولون: ﴿لَوۡ شَاۤءَ ‌رَبُّنَا ‌لَأَنزَلَ مَلَٰۤئِكَةࣰ فَإِنَّا بِمَاۤ أُرۡسِلۡتُم بِهِ كَٰفِرُونَ﴾([4]).

وقوله (أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ) أي تعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم، والذِّكر: ما يُنزله الله مِن وحي على رسوله، يذكرُ به قومه، وعلى في قوله (عَلَى رَجُلٍ) بمعنى مع، أي عجبتم من أن جاءكم وحي من ربكم مع رجل منكم، ومِن في (مِّنكُمْ) يصحُّ أن تكون بيانية وتبعيضيةً، وقوله (لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي ليتوعدَ بالعذاب المكذبين، وليبشرَ المتقين ممن أطاع وانقادَ لأمر الله بالرحمة، وذلك لأجل أن تكونوا في الآخرة في مستقر رحمته، وواسع جنته.

ثم أخبر الله عنهم أنه لم ينفعهم وعظٌ ولا تذكيرٌ، كما قال في سورة نوح: ﴿وَأَصَرُّوا۟ وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ ‌ٱسۡتِكۡبَارࣰا﴾([5])، وقال سبحانه: ﴿وَمَكَرُوا۟ مَكۡرࣰا ‌كُبَّارࣰا وَقَالُوا۟ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدࣰّا وَلَا سُوَاعࣰا وَلَا یَغُوثَ وَیَعُوقَ وَنَسۡرࣰا﴾([6])، فلمَّا تمادَوا على ذلك، أخبرَ الله نبيه نوحًا صلى الله عليه وسلم أنه لن يُؤْمِن من قومك إلَّا مَن قد آمن، وجاء وقت عقابهم، فأنجاه الله وَالَّذِينَ مَعَهُ من الغرق حين عَمَّهم الطوفان، وَالَّذِينَ مَعَهُ كانوا قلة، قال تعالى: ﴿وَمَاۤ ءَامَنَ ‌مَعَهُ ‌إِلَّا ‌قَلِیلࣱ﴾([7])، قيل: أربعونَ بين إناثٍ وذكورٍ، قال تعالى: ﴿قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِیهَا مِن كُلࣲّ ‌زَوۡجَیۡنِ ‌ٱثۡنَیۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَیۡهِ ٱلۡقَوۡلُ﴾([8])، وممَّنْ سبق عليه القولُ مِن أهله ولم يُؤْمِن امرأتُه، وقيلَ: ما آمنَ معه إلا تسعةٌ، منهم أبناؤُه الثلاثة: سام، وحام، ويافت.

وقوله (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِنَا) أي كذبوا نبيهم نوحًا، وما جاءهم به من الحجج والآيات، وعُطفت جملة (وَأَغْرَقْنَا) على (فَأَنجَيْنَاهُ) بالواو التي لا تقتضي الترتيب؛ لأنَّ تَبَيُّنَ نجاة المؤمنين لا يحصُلُ إلّا بعد إغراقِ المكذبين.

وإنما قُدِّمت جملة (فَأَنجَيْنَاهُ) للتعجيل بالبِشارة للمؤمنين بالنجاة، وبيانِ كرمِهم على الله، وجملةُ (إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ) تعليليةٌ، أي أهلَكهم اللهُ لِعَمى قلوبهم، وإعراضِهم عن النظر وتبصرِ الحق، فـ(عَمِينَ) جمع مذكر سالم لِعَمِي كفَرِح، صفةٌ مشبّهةٌ تدلُّ على التمَكّن، وهي مِن عمى القلب.

 

[1])    هود: 120.

[2])    الآية: 14.

[3])    البخاري: 4920.

 

[4])    فصلت:14.

[5])    نوح:7.

[6])    نوح:23.

[7])    هود:40.

[8])    هود:40.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق