المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (375)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (375)
[سورة الأعراف: 73-74]
(وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ)(73)
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) عطفٌ على (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا، و(ثَمُودَ) اسم قبيلة من العرب البائدة، استخلفَهم الله في الأرض بعد عاد، ومسكنهم الحِجْر، وتعرف الآن بـ(مَدائن صالح)، وورد ذكرهم في حديث غزوة تبوك: حجر ثمود، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَ الحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَمَرَهُمْ أَنْ لاَ يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا، وَلاَ يَسْتَقُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ العَجِينَ، وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ المَاءَ)([1])، قيل: كان ثمود موحدين في بُحبُوحة من العيش، مُوسَّعًا عليهم في الرزق، ففُتنوا بالنِّعم، وأنستهم الشكر، فأشركوا وعبدوا الأوثان كأسلافهم قوم عاد، والظاهر أنهم لم يكونوا مع نبيهم غلاظًا كما كان حال قوم نوح وهود، فقد قالوا له أول الأمر: ﴿ یَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِینَا مَرۡجُوࣰّا قَبۡلَ هَٰذَاۤ أَتَنۡهَىٰنَاۤ أَن نَّعۡبُدَ مَا یَعۡبُدُ ءَابَاۤؤُنَا﴾([2]).
وقوله (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) تقدم نظيره قريبا([3]).
(قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ ءَايَةً) كان رؤوس الكفر من قوم صالح صلى الله عليه وسلم قد قالوا لنبيهم، وقد أخذوه إلى صخرة عظيمة: إذا كنت تريدنا أن نصدقك، فأتنا بآية، وأخرج لنا من هذه الصخرة ناقةً عظيمةً عُشَراءَ، فشرَطَ عليهم ألا يتعرضوا لها بسوء، فقبِلُوا، ودعا ربه فاستجاب له، وتمخضت الصخرة وانفتحَت، فخرجت منها الناقة على الصفة التي طلَبوها، فآمَن بعضهم، وكفرَ أكثرهم، ورمَوه بالسحر، وقالوا: ﴿إِنَّمَاۤ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِینَ﴾([4]).
فهناك كلام من قوم ثمود، مُوجَّه إلى نبيهم قبل قوله (قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ ءَايَةً) طوته القصةُ هنا، وذُكر في قصتهم في مواضعَ أخرى.
ففي سورة الشعراء بعد ما قال صالح صلى الله عليه وسلم لقومه: ﴿إِنِّی لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِینࣱ﴾([5])، أجابوه: ﴿قَالُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِینَ مَاۤ أَنتَ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُنَا فَأۡتِ بِءَایَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِینَ قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةࣱ لَّهَا شِرۡبࣱ وَلَكُمۡ شِرۡبُ یَوۡمࣲ مَّعۡلُومࣲ﴾([6])، فظهور المعجزة لهم كان بعدَ طلبِها.
والبينةُ: الآية والمعجزة، والمعنى: قال لهم نبيهم: قد جاءتكم من الله معجزة، دالة على صدقِ ما جئتكم به، وهي الناقة.
وإضافة الناقة إلى الله إضافة تعظيم؛ لأن الله أخرجها لهم من الصخرة معجزةً لنبيه صلى الله عليه وسلم خارقةً للعادة، واللام في (لَكُمْ) للاختصاص، و(ءَايَةً) منصوب على الحال المؤكِّدة، أي: هذه ناقة الله حالة كونها معجزةً لكم.
وقوله (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أي اتركوها تأكل في الأرض التي خلقها الله، ومبالغة في تحريم التعرض لها بسوء؛ نُهوا عن مجرد مسها؛ سدا لباب التعدي عليها بالقتل أو غيره، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡرَبُوا۟ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ﴾([7])، فنهوا عن الاقتراب من مال اليتيم فضلا عن أكله.
وقد تلطفَ الله بقوم صالح، وأمهلهم مدة يختبرهم فيها بأمرٍ هو في مقدورهم، ليس عليهم فيه مشقة، ألَّا يتعرضوا للناقة في المرعى، وأن يقاسموها الشرب مِن البئر: ﴿لَّهَا شِرۡبࣱ وَلَكُمۡ شِرۡبُ یَوۡمࣲ مَّعۡلُومࣲ﴾([8])، فما دامُوا محافظين على ذلك، كانت عداوتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم محتمَلة، وإن لم يحافظوا على ذلك ويصبروا على أمر لهم فيه سِعة، واعتدَوا على الناقة التي طلبوها، كان علامة على أن عداوتهم لنبيهم وما جاءهم به، بلغتْ غايتها، فعقَروا الناقة، واستحقّوا العقوبة، وأمهلهم الله بعد عقرها ثلاثةَ أيام، ثم صُعِقوا، وأخذتهم الرجفة، كما قال تعالى: ﴿فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُوا۟ فِی دَارِهِمۡ جَٰثِمِینَ﴾([9]).
فَقوله (فذَرُوهَا) اتركوها، ولا تتعرضُوا لها، وفعل (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) مجزوم في جواب الطلب: ذَرُوها.
(وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ عَادٖ وَبَوَّأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورٗا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُيُوتٗاۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ)(74)
قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ) تقدم الكلام في نظيره عن قوم هود، في قوله: (وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ)([10]).
ومن نعم الله على قوم صالح أنه بوَّأهم في الأرض وأنزلهم ومكنهم من الانتفاع بها ومتعهم بالسهل والجبال، فانتفعوا في الصيف بالقصور، وفِي الشتاء بالكهوف، ثم قال لهم: فاذكروا آلاء الله ونعمه عليكم، ولا تفسدوا في الأرض الإفسادَ العظيم بالشركِ والتكذيب.
فـ(بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أنزلكم وأسكنكم، من البَوْء، وهو الرجوع إلى الشيء، ومنه الحديث: (أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي…)([11])، أي أرجع بالنعمة إليك وأقر بذنبي، وقوله (فِي الْأَرْضِ) في جزء منها، وهي الأرض المعهودة حيث مساكنهم، والسُّهول جمع سَهْل؛ الأرض اللينة، يقابلها من الأرض الحَزْنُ والجَبَلُ.
وقوله (مِن سُهُولِهَا) يصح أن يكون المعنى: تَبنون القصور في سهولها، فتكون (مِنْ) للظرفية، بمعنى (فِي)، ويصح أن يكون المعنى: تتخذون من السهول الطين، والحجارة اللَّبِن والآجُرّ؛ لبناء القصور، فتكون (مِنْ) ابتدائية أو للتبعيض، وتَنْحِتُونَ من النَّحْت، وهو بَرْي الأشياء الصّلبة، كالخشب والحجارة، والحفر فيها؛ لتشكيلها بالشكل المطلوب، وبُيُوتًا: مساكن، حالٌ مُقَدَّرة من الجبال.
وقوله (فَاذْكُرُواْ ءَالَآءَ اللهِ) من الذِّكر، وهو التذكر بالقلب للاعتبار والاتعاظ، وءَالَآءَ اللهِ: نِعَمه وفضائِله، وقد تقدم تصريفه آنفًا، وتَعْثَوْاْ: فِعله عَثِيَ كرَضِيَ؛ استكبر وأفسدَ إفسادًا شديدًا، ومُفْسِدِينَ: حالٌ مؤكدة؛ لأنها بمعنى عَثِيَ، كما في قوله: ﴿فَتَوَلَّوۡا۟ عَنۡهُ مُدۡبِرِینَ﴾([12]).
[1]) البخاري: 3378.
[2]) هود: 62.
[3]) ص: 153، 157.
[4]) الشعراء:153.
[5]) الشعراء:143.
[6]) الشعراء:153 ـ 155.
[7]) الإسراء:34.
[8]) الشعراء:155.
[9]) الأعراف:77 ـ 78.
[10]) ص: 159.
[11]) أبو داود:5070، حديث صحيح.
[12]) الصافات:90.