المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (38)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (38)
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)[البقرة:46-47].
تكررَ في هذه السورة نداءُ بني إسرائيل، وتذكيرُهم بالنعم، المرةَ بعد المرةِ، حتى إذا ما أعرضُوا بعد ذلك لم يبقَ لهم عذرٌ، وذُكّروا هنا بنعمة أخرى وهي قوله: (وأنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلى الْعَالَمِينَ) أي: على عالَم زمانهم، حيث كانت فيهم النبوءة متكررة، وكانوا فيه الملوك، وليس تفضيلهم على أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)[1].
وقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا) أمرٌ معناه التهديدُ، أي: خافوا هولَ يومٍ تُرجعون فيه إلى الله، فحذف المضاف، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه، إذ لا يصحّ أن يكون (يومًا) مفعولا لـ(اتقوا)؛ لأنّ اتقاءَ اليومِ ذاته مُحالٌ، فهو آتٍ لا محالة، ولا أن يكون اليومُ ظرفًا للتقوى؛ لأنه يوم جزاءٍ، لا يوم تكليف باتقائِه (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) يُقال جزَى عنه، بمعنى قضى عنه، وأجزأَ عنه: كفاه وأغناه، و(نفس) نكرة في سياق النفي، تعمّ كلّ النفوس، إلّا ما خصّه الدليل، والمعنى: احذرُوا هولَ يومٍ لا يُغني فيه أحدٌ عن أحدٍ شيئا، ولا تؤاخذ نفسٌ بذنبِ غيرها، أيًّا كانت صلتُها بها، كما قال تعالى: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)[2]، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[3].
(وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) الشفاعة مِن الشّفعِ، اثنينِ، خلافُ الوترِ، والمراد بها الجاهُ والوساطةُ، سميت بذلك لأنّ المشفوع له يذهب لحاجتِه فلا ينالُها، فيطلبُ آخرَ يتكلمُ عنه في حاجته، فيصيرُ معه شفعًا، أي: اثنين.
وسبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا: نحن أبناء الله، وأبناء أنبيائه، وسيشفع لنا آباؤنا، فردَّ الله تعالى عليهم أنّه لا تُقبل في هذا اليوم للكافرين شفاعة، فنفي الشفاعة بتخفيف العذابِ خاصّ بالكافرين، للإجماع وما دلَّ عليه صحيح السنة بثبوت الشفاعة في التخفيفِ عن العصاة، وقد أنكرت المعتزلة الشفاعة، استدلالًا بعموم آيات وردت في نفيِ الشفاعة، منها هذه الآية، قالوا النفسُ في قوله: (نفسٌ) نكرة في سياق النفي، تعمّ كلّ النفوس المسلمةِ والكافرةِ، ومنها قوله تعالى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)[4]، وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)[5]، (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)[6]، وهي كلّها في الكافرين.
ولا خلاف أنّ الكافرَ لا تنفعُه الشفاعة، والشفاعةُ التي يقول بها أهلُ السنة للنبي صلى الله عليه وسلم هي خاصةٌ بالمؤمنين، مِن أهل الكبائرِ والعُصاة، لإخراجِهم مِن النار، أو شفاعته لهم بعدمِ دخولِها، وهذه هي التي يمنعُها المعتزلة؛ لأنّ صاحب الكبيرة عندهم مخلدٌ في النار.
أما الشفاعة للمطيعين لرفع الدرجاتِ في الجنةِ، والشفاعةُ العامة لأهل المحشرِ، وهي المقام المحمود؛ فلا تَأبَاها أصولُهم، وقد دلّت النصوصُ في الكتاب والسنة على ثبوت الشفاعة، فتُخصّص بها النصوصُ التي تنفي الشفاعةَ، جمعًا بين الأدلة، قال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى)[7]، وقال: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلّا بِإِذْنِهِ)[8].
(وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) العَدل بالفتح: الفِداء والعِوض، والعِدلُ بالكسرِ: المِثلُ والمساوِي، وعدلُ الشيءِ: ما يساوِيهِ مِن جِنسه (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) الضمير في (ولَا هُمْ) عائدٌ على الكافرين، والنصرُ: العونُ، فليس لِمن أتَى ربَّه ظالمًا فديةٌ تفديهِ، ولا ناصرٌ يعينُه ويغنيهِ.
[1] [آل عمران:110].
[2] [الدخان:41].
[3] [الأنعام:164].
[4] [المدثر:48].
[5] [البقرة:254].
[6] [غافر:18].
[7] [الأنبياء:28].
[8] [البقرة:255].