المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (42)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (42)
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة:55-57].
لمّا أَمر موسى بني إسرائيلَ بأن يقتلَ بعضُهم بعضًا؛ عنوانًا على التوبةِ مِن عبادةِ العجلِ وفعلوا، اختار موسى معه سبعين مِن صُلحائِهم؛ ليخرُجوا إلى الطورِ، ويتضرّعوا إلى الله ليعفوَ عنهم، فلما خرجوا وخرجَ معهُم كثيرونَ، تركوا ما خرجوا مِن أجلهِ، وسألوا موسى عليه السلام – دون اكتراث ولا مبالاة – ما لا قدرةَ له عليه، ولا هو مِن شأنه، وقالوا له: لن نؤمنَ لك، أي: لن نديم ونستمرَّ على الإيمان لك حتى نرى الله جهرةً، والجهرة: ظهورُ الشيء علانيةً، بوضوح وإفراطٍ، فطلبوا منه أن يريَهم اللهُ تعالى عيانًا على هذه الحالةِ التي طلبوها، فعاقبهم الله على ما قالوا عقوبةً دنيويةً مؤلمة، فأماتهم بالصّعق، حرقًا بالنار، وكانت عقوبتُهم على جرأتهِم بطلبِ رؤية خاصةٍ جهرةً مِن موسى عليه السلام، تعجيزًا له عما لا يقدرُ عليه، لا على مجردِ طلبِ الرؤيةِ مِن حيثُ هي في ذاتها، فقد طلبها موسى عليه السلام مِن قبل فقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)[1].
فلا تدل عقوبتهم على استحالة الرؤية، والعقوبة الدنيوية قد تقع للصالحين، فالميزان الذي تُعلم به الاستقامةُ هو ميزانُ الشرع واتباع الأمر، لا العقوبة ومكابدةُ المشاق، فإن اللهَ يَبتلي للتمحيصِ ورفعِ الدرجاتِ.
وقوله (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) في موضعِ الحال، أي: أخذتكم الصّعقة على غفلةٍ وأنتم تنظرون، حتى إنكم لم تعدُّوا للأمر عدته، أو أن المعنى: ها أنتم تنظرون ما حلَّ بكم، وقيل لهم ذلك – بعد أن أحياهم الله – تقريعًا ليعتبروا بما نزلَ بهم، وكذلك ليعتبر من يأتي بعدهم.
(ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ) أحييناكم، فكان موتهم بالصعقة موتَ عقوبة على جرأتهم على الله، أنْ يروهُ جهرةً، وإحياؤُهم من الله بعد الموتِ معجزةٌ لموسى عليه السلام، حين تضرّع لربَّه، وقال: (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ)[2]، وكان ذلك مِن موسى رأفةً بقومه، حتى لا يفتنوا بموتِ من صعقوا، وكانوا من خيرتهم، فاستجاب الله تعالى له، وذلك يوجب عليهم شكر النعمة.
(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) الغمام جمع غمامة، كسحابة وسَحاب؛ وزنًا ومعنى، سُميت غمامة لأنّها تغطي السماء وتستُرها، والغَيمُ والغَينُ بمعنى، ومنه قولُه عليه الصلاة والسلام: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي)[3]، أي: يُغطّى، و(ظلّلْنا) جعلناه عليكم كالظلة، هيأ الله لهم الغمامَ نهارا، وكان ينكشفُ عنهم ليلا، ليقيَهم حرَّ الصحراء بالنهار، وليستضيئُوا بالقمر ليلا.
وذلك بعد أنِ امتنعوا عن دخولِ الأرض المقدسة، حين قيل لهم: (ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا)[4]، وقيل لهم على لسان موسى عليه السلام، كما في المائدة: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)[5]، فردوا عليه في سوء أدب: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[6]، فعوقبوا على ذلك عقوبة أخرى، أربعين سنة يتيهون في الأرض بين مصر والشام، يمشون النهار كله وينزلون للمبيت، فيجدون أنفسهم حيث كانوا.
فقالوا لموسى: من لنا من حر الشمس؟! فظللَ اللهُ عليهم الغمام، وقالوا له: مَن لنا بالطعام؟! فأنزل الله عليهم المنَّ والسَّلْوى.
(وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) المنُّ يصحّ أن يُراد به المصدر، أي: ما يُمنُّ به عليهم من طيّب الطعام، فيعمّ كلَّ ما كان يأتيهم منهُ سهلًا، بلا مؤُونة في تحصيلِه، ببذرٍ ولا سقيٍ ولا علاج، ويدل عليه ما جاء في صحيح مسلم: (الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِى أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ)[7]، وفي رواية: (مِنَ الْمَنِّ الَّذِى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى)[8].
ويصحُّ أن يكون المنُّ عَلَمًا على مادة بعينها تُسمى المَنّ، وهي مادة بها حلاوة شبه الدقيق، تميلُ إلى الصُّفرة، تنزلُ على شجرِ البوادي، طعمها كرُقَاقٍ بعسلٍ، وقد أكلَ بنو إسرائيل المنَّ أربعين سنةً.
والسلوى: طائرٌ برِّي يسمى السُّمَانى، على وزن حُبارَى، جمع لا واحد له من لفظه، أو مفرده سمانَة، ويسميه أهل بلادِنا السّمّان؛ لذيذ اللحم، سهل الصيد، كانَ يأتي لبني إسرائيلَ سهلًا، يمسكونَه بالأيدي.
أُعطوا هذه الطيبات بعد حرمان، وقيل لهم حفاوة بهم (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ولكن كعادتهم، كلما أُعطُوا نعمة زادوا نكرانًا وجحودًا، فشكوا إلى موسى الملل مِن لحمِ السُّماني والمَنّ، وقالوا: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)، فاستبدلوا الذي هو أدْنى بالذي هو خير، فذكر الله تعالى أنهم بجحودهم النعم ما جَنَوا إلّا على أنفسِهم: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فظَلَموا أنفسَهم باستخفافهم بالنعم، فحُرمُوها وعرّضُوها للزوال.
وتقديم المفعول (أنفسَهم) على (يظلمونَ) لتأكيد القصر الحاصل من النفي والإثبات.
[1] [الأعراف:143].
[2] [الأعراف:155].
[3] [مسلم:2702].
[4] [البقرة:58].
[5] [المائدة:21].
[6] [المائدة:24].
[7] [صحيح مسلم:3827].
[8] [صحيح مسلم:3826].