المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (46)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (46)
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[البقرة:60].
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) معطوفٌ على مَا قبلَهُ مِن النِّعمِ، من قولِه: (وإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحرَ فأنْجَينَاكُم)، وما بعدَهُ إلى قولِه: (وظَلّلْنَا علَيكُمُ الغَمَامَ وأَنْزَلْنَا عَلَيكُمُ المَنَّ والسَّلْوَى) للتذكيرِ.
واستسقَى فعلُهُ سَقَى، وزيادةُ السينِ والتاءِ فيه للسؤالِ والطلبِ، سؤالُ السقيا منَ الله، وطلبها، مثلُ الزيادةِ في (اسْتَغفَرَ) و(استَنْصَرَ).
وقد تكون زيادة السين والتاء في الفعلِ للمبالغةِ والتأكيد، لا للطلب، كما في قوله تعالى: (وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ)[1]، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ)[2]، (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ)[3]، (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا)[4].
وطلب السّقيا؛ طلبُ الوصولِ إلى الماءِ، والتمكن منه عندَ الحاجةِ، أي: اذكروا نعمة ربكم عليكم حينَ طلبَ موسَى عليه السلام مِن ربه السُقيا لقومِه، فأجابَه بقوله: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ).
و(العَصَا) معروفةٌ، اسمٌ مقصورٌ مؤنثٌ، قال تعالى: (هِيَ عَصَايَ)[5]، وأصلُ ألِفِها واوٌ، فيُقالُ في التثنيةِ عَصَوانِ، وفي نسبتِها عَصايَ، كما قال تعالى: (هيَ عَصَايَ)، ولا يُقال عَصاتِي، ولا عَصاتُهُ، ومنهم من عدَّ قولهم عصاتِي أول لحنٍ سُمع بالعراق، وعصا موسَى التي انفَجَرَ بها الماءُ، هي عينُها التي تلقَّفتْ ما صَنَع السحَرَةُ عندما جمعهم فرعون، قال تعالى: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ)[6]، وقال: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا)[7]، وهي التي كانت بصحبة موسى عليه السلام حين كلّمَه ربُّهُ، وقال له: (أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)[8].
(فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) الفاء للفصيحة، عاطفةٌ على محذوفٍ بعد قوله (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) تقديرُه: فضَرَبَ فانفجَرَت، وهذه علامةٌ تُعرفُ بها فاءُ الفصيحةِ: ألّا يصلحَ عطفُ ما بعدَها علَى ما قبلَها إلّا بتقديرِ محذوفٍ في الكلامِ، والانفجارُ انفتاحُ الحجَرِ، وخروجُ الماءِ منه مُتدفِّقًا، وفي الآية الأخرى، قال تعالى: (فَانْبَجَسَتْ)[9]، ولا تعارضَ، فالانبجاسُ أولُ خروجِ الماءِ مِن الصخرِ، ثم يعظمُ ويتدفقُ حتّى يكونَ متفجرًا، و(عَيْنًا) منصوبٌ على التمييز المبيّن، والعينُ اسمٌ مشتَرَك، تقع على عين الماءِ كما هنا، وعلى العين الباصرةِ؛ سمّيت بذلكَ لخروج الماء منها كخروجِه مِن عين الأرض، وعلى الجاسُوس، وعلى عين الشمس، وعلى النقد مِن الدينارِ والدرهمِ، وغير ذلك.
دعا موسى ربَّه لقومه أن يسقيَهمْ، حينَ شكوا إليهِ حاجتَهم إلى الماء، وهم في صحراءَ مُجدِبة، فأنزل الله عليهم المَنّ والسَّلوى، كفايةً لطعامِهم، وفجرَ لهم مِن الحجر عيونَ الماء، كفايةً لسُقياهم، كرامةً لهم، ومعجزةً لنبيه عليه الصلاة والسلام.
وتلك نعمةٌ جليلةٌ تستحقُّ التذكيرَ بها لتُشكرَ، فقد جمعت في ذاتِها ثلاثَ نِعَم؛ سُقيا الماء مع الحاجةِ الشديدة إليه، والحاجة إليه أشدّ مِن الحاجةِ إلى الطعام، ووجوده في الصحراءِ في غير مَظِنّتِهِ، حيث لا يُنتظَرُ وُجودُه، وتعدد موضعِ انفجارِه مِن الحجرِ إلى اثنتي عشرةَ عينًا، على عددِ أسباطِ بني إسرائيلَ وفروعهم، حتى لا يتزاحَمُوا عليهِ ويتقاتَلُوا.
والأسباطُ في بني إسرائيلَ كالقبائلِ عندَ العربِ، وكانوا اثني عشرَ سبطًا على عددِ أولادِ يعقوبَ عليه السلام، وانفجار الماء لموسي عليه السلام، وإن كانت معجزةً خارقةً للعادة، فقد أمر الله تعالَى لها بالأخذِ بالسببِ: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ)، حتى لا يغفلَ الناسُ عن الأسبابِ، وليرتّبَ على الأخذ بها الثّواب والعقاب.
(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) فُصِلت الجملةُ عما قبلها دون عاطف، لوقوعِها في الكلام موقعَ الجوابِ، فكأنّ سائلًا سألَ عنِ الحكمة مِن تعددِ انفجارِ العيونِ، فقيل له: ليعرفَ كلُّ سبطٍ مشربَهُم، والمشربُ إمّا مصدرٌ ميميٌّ بمعنَى الشُّربِ، وإمّا اسمُ مكانٍ، أي: موضع الشربِ المتعددِ بتعددِ العيونِ، وكانَ اثني عشرَ موضعًا على عددِ فروعِ أسباطِهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) الجملة على حذف القول، أي قيل لهم امتنانا عليهم: كلوا واشربوا من رزق الله، وذٌكر الأكل مع أنّ الكلامَ هنا على السُّقيا؛ لتقدمِ ذكر إنزالِ المنِّ والسّلوى عليهم، وهي ممّا يؤكلُ، أي: كلوا المنَّ والسّلوى، واشربوا الماءَ، رزقًا أتاكم سهلًا تفضل الله به عليكم، لم يكلّفكم عليه كدًّا ولا جهدًا.
(وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) يقال: عثِيَ كرَضيَ، يعثى عِثيا وعُثيا، وهو الفسادُ، أو غايتُه وشدتُه، ومنه العُثّة الأَرَضة وتُسمى عندَ العامّة (السّوس)، حشرةٌ صغيرةٌ، تلحسُ الكتابَ والصحيفةَ ونحوها فتفسدُها، وإليها الإشارة في قوله تعالى: (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ)[10]، وهي التي أكَلت عَصَى سليمانَ عليه السلام، ودلّتِ الجِنَّ على موتِه، و(مُفسِدِينَ) حالٌ مؤكدةٌ لمعنَى عامِلِها وهو (تَعثَوْا) فإنّ الفسادَ عثوٌ، ومناسبةُ النهيِ عنِ الفسادِ (ولا تعثوا) بعدَ التذكيرِ بالنعمِ، أنّ النِّعمَ إذا توالت على العبدِ دونَ منغّصٍ، أنسَتْه الحاجةَ إلى المُنعِم، فيغفلُ، وكثيرا ما يطغى؛ (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)[11]، فاحتاجَ إلى النهيِ والتحذيرِ.
[1] [التغابن:6].
[2] [آل عمران:195].
[3] [البقرة:34].
[4] [الإنسان:7].
[5] [طه:18].
[6] [الشعراء:45].
[7] [طه:69].
[8] [طه:19،20].
[9] [الأعراف:160].
[10] [سبأ:14].
[11] [العلق:6،7].