المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (53)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (53)
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)[البقرة:76-78].
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) هؤلاء فريق من بني إسرائيل، تقدم في الآيات السابقة استبعاد الطمع في إيمانهم؛ لِما عُرفوا به من تحريفِ كلام الله بعدَ ما علِمُوه، فأضاف هنا مِن أوصافِهم ما جُبِلوا عليه مِن النفاق، وأنهم إذا لقوا الذين آمَنوا قالوا (آمنَّا) بألسنتهم، أما قلوبهم فقد طُبعت على الكفر والنفاق (وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ) إذا انفردوا عن المؤمنين، وخلَوا مع مَن كان على شاكلتهم من اليهودِ والمنافقين، قال رؤساؤهم في الكفر لعامتّهم مقرِّعِين لهم: (أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) الاستفهام في (أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) استفهام إنكار وتوبيخ، وبّخَ فيه الرؤساءُ الضالعونَ في النفاقِ بعضَ العامةِ منهم؛ لِمَا أظهروهُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ مِن حقائِقَ – دونَ قصدٍ منهم – كان ساسَتُهم ورؤُوسُهم يحرصون على عدمِ ذكرِها عند النبي صلى الله عليه وسلم، وذلكَ حينَ نزلَ القرآن بما يوافقُ التوراةَ ويقيمُ الحجةَ على اليهود، مِن مثلِ البشارةِ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وما جاء في التوراة من الأحكام والحدودِ التي تتفقُ مع القرآنِ، فهذه الأحكام كان اليهودُ يُخفونَها، كما قال تعالى: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)[1]، وظنَّ الرؤساء أن ذلك كان قد وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مِن عامتهم مِن المنافقين، تظاهرًا منهم بالتوددِ للمسلمين، سترًا على كفرهم، فكان الرؤساءُ لا يحبون ذلك، ويلومونهم؛ كيف تخبرون المسلمين بما فتح الله به عليكم، وعلمتموه من التوراةُ ممَّا يُدينُ اليهود ويفضحُهم، فتقيمونَ على أنفسِكم الحجةَ؟!
وقوله: (بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) الفتح: الحكم والقضاء، ومنه قوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)[2] والمراد هنا العلم والبيان، أي: كيف تحدثون المسلمين بما علمتموه مِن التوراة، وقوله: (لِيُحَاجُّوكُم) الحجةُ: الكلامُ المستقيم، ومنه (المحجة) للواضحِ المعالمِ مِن الطريق، أي: ليعيِّروكم ويبكِّتوكم ويقيموا عليكم الحجة، وهذا تتميم وتعليل للتوبيخ الموجه لمن ظهر منه شيءٌ وأفشاهُ، كانت سياسة النفاقِ تفرضُ عليهم كتمانَه، مع أن الحاملَ على إظهار مَن أظهرَه منهم هو الإمعانُ في النفاق؛ ليقبلهم المؤمنون، ويبعدوا عن أنفسهم الريبة، فحذرهم الرؤساء مِن ذلك، ورموهم بالسفه والغفلة وقلة العقل؛ لأنّ عاقبته ضعفتْ أمر اليهودِ، وأقامتِ الحجةَ عليهم (عِندَ رَبّكُمْ) ويظهر هذا الضعف عندما تكون المحاجة بينكم وبينهم، بالرجوعِ إلى ما يأتيكم من عند ربِّكم من الوحي، فيظهرون عليكم بالحُجةِ، ويكونون أحق منكُم برضَى ربّكم ورضى الناسِ (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) يلومونهم كيف تفعلون ذلك، هل غابت عقولُكم فلم يعد لكم تمييز؟!
(أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) توبيخ آخر يعمهم جميعًا؛ الأحبار والأتباع، (أَوَلَا يَعْلَمُونَ) أَجَهِلوا فلم يعلَموا أنّ الله يعلم منهم السرّ والعلنَ، بما في ذلك لومُ الرؤساء للأتباعِ على تحديث المؤمنين بما يقيمُ عليهم الحجة، وقوله: (مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) بما أسرُّوهُ من الكفر، وما أعلنوهُ من النفاق، والتظاهر بأنّهم مع المؤمنين.
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ) تقدمَ أنّ مِن اليهود فريقًا لهم معرفةٌ وعلمٌ، يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما علموه، وذكرَ هنا أنّ منهم فريقًا آخرَ (أُمّيونَ) لا علم لهم بالكتابِ، فاليهود وإن كانوا أهل كتاب؛ فليسوا كلهم أهلَ كتابة، فمنهم أميونَ، والأمية فيمن عُرفوا بالكتابِ عيبٌ وذمٌّ، وذلك لِما تقتضيه من قلة المعرفةِ في قوم لهم معرفةٌ، بخلافها في العربِ الأميينَ في ذلك الوقت، فلم تكن الأمية فيهم حينها وصفَ ذمٍّ، بل كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم معجزةً ومدحًا، إذ جاءهم مع الأمية بكتابٍ معجزٍ، تحداهم بأقصر سورةٍ منه.
و(أُمّيونَ) جمعُ أُمّيّ، هو من لا يقرأ ولا يكتب، ونسبته إمّا إلى الأم، فكأنهُ باقٍ على الحالةِ التي ولدتهُ أمه عليها، لم يكتسب علمًا؛ كما قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)[3] وإمّا أن تكون نسبته إلى الأمَّة من الناس، أي العامة الذين تغلب على حالهم الأميّةُ وقلةُ العلم، خلاف الخاصة (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) الكتاب يمكن أن يكون مصدرًا لـ(كَتبَ)، أي منهم مَن لا يعرفون الكتابة أصلا، فتكون جملة (لا يَعلمُونَ الكتابَ) وصفًا كاشفًا لقولِه: (أُمّيونَ) للتأكيدِ، كما تقول: كتبتُ بيدي ونطقتُ بلسانِي، ويمكن أن يراد بالكتابِ التوراة، أي: منهم أميونَ لا يعلمون التوراةَ حقيقة، هم جاهلون بها، وما يتناقلونَه عنها ما هو إلا كلامٌ مشوشٌ، ينمّ عن جهلهِم بها، وما هو (إلّا أَمانِيّ) يتمنونَها، إن هيَ إلا دعاوَى يدَّعونَها في العلم بالتوراة، يتمنونَ أن تتحقّقَ، كحالِ الجاهلِ؛ يتمنّى أن يكونَ لقولِه أصلٌ في العلم، وما هو مِن العلمِ؛ كما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ)[4].
(وإِن همْ إلّا يَظنُّونَ) يتخرصون فيما يقولونه تخرصًا من غير علمٍ، وما هم بمستيقنين، قالَ تعالى: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ)[5].
[1] [الأنعام:91].
[2] [الأعراف:80].
[3] [النحل:78].
[4] [آل عمران:78].
[5] [الذاريات:10].