المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (55)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (55)
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ)[البقرة:83-84].
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الميثاقُ العهدُ على الإيمان وترك الكفر، أخذَ اللهُ العهدَ بواسطةِ نبيهِ موسى عليه السلام على بني إسرائيلَ (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) نفي العبادة لغير الله وإثباتها لله، هذا هو الميثاق؛ إثباتُ التوحيدِ، والتصديقُ بالرسلِ، والعملُ بالتوراة، وبما جاءتْ به الرسل، وجاءَ الأمر في صورة الجملة الخبرية، ليفيد تأكدهُ حتى كأنه أمر تحققَ، وفرغوا منه وحصلوه بالفعل، فأخبرَ به.
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) مِن تعظيم الله تعالى لحقِّ الوالدين أنّه قرنَ حقَّهم بحقِّه، هنا وفي مواضع أخرى في القرآن، كما قرنَ شكرَهم بشكرِه، فقال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)[1].
والإحسانُ إليهما خلاف الإساءةِ ويتحقق بكلُّ ما يدخل السرورَ عليهما، فيكون بالقولِ الكريم، كما قال تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)[2]، والدعاءِ لهما بالرحمة والمغفرةِ، ويكون بالفعلِ بمعاشرتِهما بالمعروفِ، وخدمتها فيما يحتاجانِه، وعونِهما بالكفايةِ والرعايةِ في كلِّ شؤونِهما بالمعروف، وبصلةِ رحمِهما، والإحسانِ إلى أهلِ ودِّهِما.
وعُطفَ على الإحسان للوالدين إحسانٌ آخر لغيرهما، مأمورٌ به أيضًا: (وَذِي الْقُرْبَىٰ) برّ القراباتِ مِن ذوي الأرحامِ، وصلتهم والإحسان إليهم، حتى لو كانوا أغنياءَ غيرَ محتاجينَ، ولبالغ أهمية الإحسان إليهم تكررَ الأمرُ به في القرآنِ في مواضعَ عديدةٍ، وفي الصحيحِ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: (الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ)[3]، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)[4]. وكان طاووس رحمه الله تعالى يرى السعيَ على الأخواتِ أفضلَ من الجهادِ في سبيلِ الله[5].
وعطف عليهم الإحسان إلى اليَتَامَى والمَسَاكِينِ مِن ذوي الحاجات، و(اليتامَى) جمعُ يتيم، كنَدَامَى ونَديم، مِن اليُتمِ وهو الانفرادُ، واليتيمُ مِن بني آدم مَن فقدَ أباهُ قبلَ البلوغِ، والإحسانُ إليه برعايتِهِ وحفظِ مالِه، و(المساكينُ) جمعُ مسكينٍ، مَن سكنتهُ الحاجةُ وأذلّتهُ، والإحسانُ إليه بمواساتِه بما ينفعُه، والتصدقِ عليهِ، وسدِّ خلتِهِ (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) هذا من عطف العام على الخاص، فبعد الأمر بالإحسان إلى مَن ذكروا بأعيانهم؛ أمر الله أمرًا عامًّا بحسنِ الخطابِ للناس جميعًا، أمرَهم بلينِ الكلامِ وطيّب القولِ وحسنِ الخلقِ، خطابٌ عام للناسِ كافةً، ومع الناس كافةً، لا يستثني أحدًا، مع الوجيهِ والوضيعِ، والبرِّ والفاجرِ، والدَّيّنِ والفاسِقِ، والملتزمِ بالسننِ والمبتدعِ، حتى فرعون على استكباره وكفره، قال الله تعالى لموسى وهارون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا)[6]، فما دونه من العصاة في حسنِ القولِ أولَى وأحرَى.
والمرادُ بالقولِ الحسنِ، ما كان حَسَنًا شرعًا، وإن أغضبَ سامعَه، وليس المراد به القول الملائم الذي يرضيه ولو خالفَ الشرعَ، فيدخل في القول الحسن تغيير المنكر وإن كرهه الناس، فليس من القول الحسن مجاملة الناس بما يرضيهم من الباطل؛ لكسبِ ولائِهم ومودتِهم، وإنْ أحبّوه، فذلك مداهنةٌ ونفاقٌ يُغضبُ الله تعالى، قال الله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)[7].
وخصّ الإحسانَ في الآية بالقولِ لأنهُ المقدورُ عليهِ لكل أحدٍ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكُمْ لنْ تَسَعوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ فَليَسَعهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ)[8].
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) مِن التكاليف التي أُخذَ فيها الميثاق على بني إسرائيل – بعد أمرهم بالإحسانِ الخاصّ والعام – إقامةُ أركان الدِّين؛ مِن الصلاةِ والزكاةِ، وهو نوع آخرُ مِن الإحسان، فإنّ إقامةَ هذه الشعائر مِن الإحسانِ للنفس، وهي أولَى بالإحسان (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) الخطابُ للموجودين مِن بني إسرائيلَ عند نزول القرآنِ، تذكيرًا لهم بمَا فعلهُ أسلافُهم، ولومًا لهم على سيرِهم على منوالِهم، يقولُ لهم على وجهِ التوبيخِ والتقريعِ: فأنتم أعرضتُم كما أعرَضُوا، واتبعتموهُم في نقضِهم العهدَ الذِي أُخذَ عليكُم، بالتوحيدِ والصلاة والزكاةِ والإحسانِ العام، وكذَّبتُم كما كذبُوا (إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ) استثناءٌ فيه شهادة لهم للأسلاف والأحفاد، بأنّ منهم قليلًا وَفّى بالعهدِ الذي أخذ عليهم، فأنصَفَهم القرآنُ، ونوَّهَ بهم، فمِن اليهودِ مَن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسلمَ، كعبدِ الله بنِ سلّام، بل كان ممن بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة (وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) جملة حالية، والحال أنّ أكثركُم كان معرضًا؛ فالتولِّي والإعراض، ونقض العهدِ والميثاق هو دأبهم.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُم) عهد وميثاق آخر أخذ عليهم، ألّا يسفكوا الدماء، والسفكُ هو الصبُّ والسَّفحُ، والمراد النهي عن القتلِ، وخصَّ سفحَ الدمِ بالذكرِ لأنّه الحالةُ الغالبةُ في القتلِ.
هذا وكل ما أُمرَ به أو نُهيَ عنه مَن قبلَنا فنحنُ مأمورونَ به أيضًا، ما لم يَردْ مَا ينسخُه في شرعِنا، وجملةُ (وإذ أخذنا ميثاقكم) خبريةٌ كالتي قبلها، يرادُ بها النهيُ عن القتلِ مطلقًا على أبلغِ وجهٍ، سواء صحبه سفكُ دَم أو لم يصحبهُ، كشنقٍ أو كسرِ عنقٍ ونحوه.
وليس النهيُ في قولِه: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُم) متوجهًا حقيقة إلى أن يسفكَ المرأُ دمَ نفسهِ، فذاك أمرٌ طُبعت النفسُ بفطرتِها على ألّا تفعلَه، فلا يحتاجُ إلى الزجرِ عنه، بل المقصودُ النهي عن أن يقتلَ الناسُ بعضهم بعضًا، على حدِّ قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)[9] وقوله: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ)[10].
فعبر عن قتل الغير بقتل النفس تعظيمًا لحرمةِ دم الغير، ليشعرَ المسلم بأنّ الحرصَ على حياة كلِّ معصوم يجبُ أن يكونَ كحرصِه على نفسهِ، وأنّ من تعدّى عليها فكأنما تعدَّى على نفسهِ، ومثله قولُه عقبَ الآية المذكورة: (وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ)، فالنهي فيه كالنهي السابقِ، لأنّ الإنسانَ لا يُخرجُ نفسَه مِن دارِه ظلمًا، وإنّما يتعدَّى عليه غيره ليخرجَه، ويحلَّ محلّه، فنُهوا عن ذلك، على وجهٍ يصورُ شناعةَ مَن يفعلُه بمنزلةِ مَن يفعلُ ذلك بنفسهِ. وقوله: (أنفسكم) جمعُ نفس، والنفس مشتقة من النَّفاسَة، فهي أنفَسُ شيءٍ لدَى الحيّ، والديارُ جمعُ دارٍ، ما يقيمُ فيه الإنسانُ مِن بناءٍ ونحوهِ.
وكان بنو إسرائيلَ قد أُخذَ عليهم الميثاقُ في التوراةِ ألَّا يقتلَ بعضُهم بعضًا، ولا يتعرضَ بعضُهم لبعضٍ، بنفيٍ أو حرابةٍ أو استرقاقٍ، وهو ما كلِّفت به هذه الأمةُ أيضًا، وجاءت به شريعة الإسلام.
(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) اعترفتم بالميثاقِ الذي أُخذ عليكم، بحرمةِ الدمِ والديار، وعلِمتموه علمًا يقنًا، حتى إنّ الواحدَ منكم إذا اختلَى بنفسِه شهدَ عليها بذلكَ وأقرّ به، كما شهدَ به بعضُكم على بعضٍ؛ لظهورِ تعهدِ أسلافِكم على العمل بهِ، ووضوحه بحيثُ لا يَخفَى.
[1] [لقمان:14].
[2] [الإسراء:23].
[3] [البخاري:5643، ومسلم:4635واللفظ له].
[4] [البخاري:2067، ومسلم:2557].
[5] [الجامع لأحكام القرآن:10/ 241].
[6] [طه:44].
[7] [القلم:9].
[8] [البزار في مسنده:17/99/9651، والحاكم في المستدرك:391].
[9] [النساء:29].
[10] [النور:61].