المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (59)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (59)
(وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[البقرة:92-95].
(وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) هذه الآياتُ زيادةٌ في إفحامِ اليهود، والردّ على ما زعموا؛ مِن أنّه لا يمنعُهم مِن متابعةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلّم سِوى التزامِهمُ الإيمانَ بما أُنزلَ عليهم، لا على غيرِهم، فما يظهرُون مِن الإعراضِ عن الإسلام ما هو – في زعمهم – إلّا لشدةِ اتّباعِهم لموسى عليه السلام، وقد قيلَ لهم قبل هذه الآية: (قل فلِمَ تقتلون أنبياءَ الله إن كُنتُم صادقين)؟ وقيل لهم في هذه الآية: لِمَ تركتُم متابعةَ موسى عليهِ السلامُ، وقد جاءَكم بالبيناتِ والمعجزاتِ الواضحةِ، الدالةِ على صدقهِ، وعبدتم العجلَ، بعد أن أخْلفَ عليكم هارون، وذهبَ موسى لمناجاةِ ربهِ؟! أليسَ ما جاء به موسَى هو ممّا أُنزلَ عليكُم، فلمَ عبدتم العجلَ؟
(وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) الجملة حالية، والظلمُ: وضعُ الشيءِ في غير موضِعِهِ، وأعظمُهُ الشركُ، والرّضَى بالكفرِ بدلَ الإيمانِ، فعلتم ذلكَ الشركَ والحالُ (وأنتم ظَالمونَ).
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) الميثاق: العهد، وهو تعهدهم بالعملِ بالأوامرِ والنواهِي وجملةِ التكاليفِ، والطور: الجبل، وقد أُخذ بذلك العهد على أسلافِهم مِرارًا؛ منها عندما رَفعَ اللهُ الجبلَ فوقَ رؤوسِهم، فعايَنوا الهلاكَ، وظنّوا أنّه واقعٌ بهم، ساقطٌ عليهم، فتَضرّعوا، وأعطوا العهودَ بالاستقامةِ والعملِ بالتوراةِ (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) أُمِروا أن يتمسكوا بالميثاقِ، ويُقبلوا على العملِ بالتوراةِ بهمةٍ وعزيمةٍ ورغبةٍ (وَاسْمَعُوا) اسمَعوا سَماعَ طاعةٍ وامتثالٍ، لا سَماعَ عصيانٍ، مجرد إصغاء ليسَ معه عملٌ (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) يحتملُ أنّهم قالوا سمِعنا وعَصينا بلسانِ المقالِ؛ تماديًا في العنادِ، ويحتملُ أنهُ حكايةٌ عن حالِهم، أي: قالُوهُ بلسانِ الحالِ، لا بلسانِ المقالِ.
(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أُشربُوا عبادةَ العجلِ، على حذفِ مضافٍ، أي: فقد بلغَ حبّهم لعبادةِ العجلِ مبلغًا أخذَ بمجامعِ ألبابِهم، فتخلّلَها تخلُّلا لا انفكاكَ لها عنهُ، كتخلّلِ الماءِ الذي أُشربَ البَدن (بِكُفْرِهِم) أشرِبوهُ بسببِ كفرِهم وعبادتِهم العجلَ، فهو حبُّ عبادةٍ لا عادَةٍ، حبٌّ مستحكمٌ أشدّ ما يكونُ الحبّ.
(قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) قلتم سمعنا وعصينا، وعبدتم العجلَ، وقتلتم مِن أنبياءِ الله فريقًا، وكذبتم فريقًا، فهلْ هذا مقتضَى الإيمانِ الذي نسبتموهُ لأنفسكُم، وتظاهرتُم بالتشددِ فيهِ، والتمسكِ به، حتّى زعمتُم أنّكم لحرصِكم عليه، لا تؤمنونَ إلّا بما أنزلَ إليكم مِن التوراةِ، ولا تؤمنونَ بغيره، ولا بالقرآنِ، فبئس الإيمانُ إيمانُكم المزعومُ، الذي يأمركم بعبادةِ العجلِ، وتكذيبِ الأنبياءِ وقتلِهم، وهو بعيدٌ غايةَ البعدِ عن الصدقِ، فهو إيمانٌ نسبتموهُ لأنفسكم، واخترعتمُوه، لا إيمان المؤمنينَ الصادقينَ؛ لتناقضِهِ، لأنّ إيمانَ المؤمنين لا يأمرُ بارتكابِ هذهِ الموبِقات.
(قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) الدار الآخرة: الجنة، خالصةً: خبرُ (كانَت) أو حالٌ، والخالصُ هوَ ما زالَ عنهُ شَوبُهُ بعدَ أن كانَ فيهِ شوب واختلاطٌ بغيره، بخلاف الصّافِي، فإنه يُقالُ لِما لم يخالطْهُ شيءٌ (لَكُم) اللام للاختصاصِ، وتأكّد بقولِه: (مِنْ دُونِ النّاسِ).
وقد ذكرت الآيات أن اليهودَ زعمُوا أنّ عدمَ إيمانِهم بالقرآنِ، سببُه شدةُ تمسكِهم بما أنزلَ إليهم مِن التوراة، وذلكَ التمسكُ المزعومُ أعطاهُم مكانةً وحظوةً عند ربّهم، فجعلَ لهم الجنّةَ، خالصةً لهم، مِن دونِ الناس جميعًا، فكذّبَ اللهُ تعالى ما زعمُوا، وتحدّاهم: إن كانت لكم الدار الآخرة، والجنة مختصةً بكم، لا يُشاركُكم في نعيمِها غيرُكم، فتمنّوا الموتَ لأنفسكم، إذَا كُنتُم حقّا على هذه الحالِ – مِن اختصاصِكم بنعيمِ الجنةِ – لتصيرُوا إليهِ، فنعيمُ الجنةِ في الآخرةِ، ولا يمكنُ الوصولُ إليهِ إلّا بالموتِ، فمَن أيقنَ أنّه مِن أهلِ الجنةِ اشتاقَها.
وهذا ما فعلَه أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم بدر: (لاَ يُقَاتِلُ أَحَدٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيُقْتَلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ). وكان عمير بن الحمام واقفًا في الصف، بيده تمراتٌ يأكلهنّ، فسمع ذلك فقال: بَخٍ بَخٍ، ما بيني وبين أَن أَدخل الجنة إِلا أَن يقتلنِي هؤلاءِ، وأَلقَى التمرات مِن يده، وأَخذ السيفَ فقاتلَ القومَ حتى قُتل[1].
وقال علي رضي الله تعالى عنه: “لَا أُبالِي سَقطْتُ علَى الموتِ، أَو سَقَطَ الموتُ عَلَيّ”[2].
وقال عمار رضي الله تعالى عنه بصفين: “الْيَوْمَ أَلْقَى الأَحِبَّةَ؛ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ”[3]. وقال حذيفةُ رضي الله عنه حينَ احتضر: “حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ, لا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ”[4] أي: على التمني الذي تمنّاه.
(وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) إعجازٌ قرآنيّ، دالٌّ على صدقِ نبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقد تحدّاهم بقولِه: (وَلَن يَتَمَنّوهُ أبَدًا) و(أبَدًا) ظرفُ زمانٍ مثلُ الحينِ والوقتِ، يصدُقُ على القليلِ والكثيرِ، والمرادُ بالتأبيدِ هنا مدة حياتِهم، فلا ينافِي أنهم تمنّوهُ في النارِ، كما قال تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)[5] وجهُ الإعجازِ أنه نفَى عنهم أنْ يتمنوا الموتَ في الدّنيا، فما قدرَ أحدٌ منهم مدةَ حياتِهِ أنْ يكذِّبَ القرآنَ ويتمنّاه، وقدْ رُويَ أنّهم لو تمنّوا الموتَ لمَاتُوا.
(بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) سببُ عدمِ تمنيهم الموتَ؛ علمُهم بما اقترفتهُ أيديهِم مِن موجِباتِ النارِ، ككفرهِم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتحريِف التوراةِ، وقتلِهم الأنبياءَ، فلِمَا علموهُ مِن أنّ هذا لا يوصِلُهم إلّا إلى النارِ؛ لم يتمنّوا الموتَ أبدًا (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) إخبارٌ عن علمِ الله وإحاطتهِ بعدوانِهم وظلمِهم، ويتضمّنُ تهديدًا بأنْ يحلَّ بهم ما يَستحقونَ.
[1] [صحيح مسلم:3520].
[2] [فيض القدير،ص:474].
[3] [حلية الأولياء:1/ 141- 142].
[4] [تاريخ دمشق،ص:298].
[5] [الزخرف:77].