طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير –  الحلقة (71)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

 الحلقة (71)

 

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة:125 – 126].

 

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) البيت: الكعبة المشرفة، وقد عُرفَت بالبيت من عهد الجاهلية، وأصلُ (أل) في البيت للجنس، وصارَ علمًا على الكعبة بالغلبة؛ كالنجم للثريا، والكتاب للقرآن، وبذلك تصير لامُه للعهد، أي البيت المعهود (مَثَابَةً) المثابةُ: المرجعُ، والمكانُ الذي يرجعُ إليه الناسُ المرةَ بعد المرةِ، ويقصدونه بالتعظيمِ، ويلوذونَ به.

واللام في الناس للجنس، فلا يلزم منها رجوع كل أحد زاره بعينه، بل جنس من أتاه في مجموعهم، لا جميعهم يرجع إليه، فيصدق على الواحد منهم وعلى أمثاله.

(وأمْنًا) الأمنُ: حفظ الناس في دينهم وأبدانهم وأموالهم وأعراضهم مما يضرُّ بهم ويخيفُهم، وأدواتُه كثيرةٌ ومتنوعةٌ في المجتمعات المتمدنة، وفي كلِّ مجتمع بحسبه؛ فكفّ الظلمةِ والأخذ على أيديهم والانتصاف منهم وردّ المظالم أمْنٌ، وتمهيدُ السّبلِ وإنارةُ الطرقِ، ومراقبة الأسعار والسلع، وحراسةُ الحدود، وتوفير الغذاء والدواء، وإقامة العدلِ أمْنٌ، والعملُ على استقرارِ البلد، وحفظُ المالِ العام مِن السرقةِ والنهب، وحسنُ اختيارِ مَن يتولى أمرَ الناسِ، وتكثيرُ سوادِ أهلِ الحق، والإنكارُ على الظلمةِ وقطاع الطرق، والتخلصُ مِن العصبيةِ القبلية والجهوية ودعوى الجاهلية أمنٌ، والأمنُ في الآية مصدرٌ أُخبر به عن البيت؛ مبالغةً، حتى جعل كأنّ البيت هو الأمنُ نفسه، على معنى أنه سببٌ ضامنٌ للأمن، وهو إِخبَارٌ مِن اللهِ تعالى عَن تَعظيمِ حُرمَتهِ فِي الجاهِليَّةِ، نِعمةً منهُ عليهم، وعلى مَن بعدَهم، إذ لم يكن للناسِ في الجاهلية شريعةٌ ولا قانونٌ يردعُهم، وكان الحكمُ للقوة، فامتَنّ اللهُ عليهم بالبيتِ، وجعله أمْنًا؛ ينكفّ فيه القويّ، ويأمنُ فيه الضعيف؛ كما قال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)  ([1])، والآية: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) خبريةٌ لفظًا طلبيةٌ معنًى، أي: اجعلوه ملاذًا للخائفِ، وأمّنُوا فيه الناس، على حدِّ قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ)([2]) (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ)([3])، فلا تعارض بينها وبين ما وقع مِن فزع الناسِ في الحرمِ مراتٍ عديدة، على مَرِّ التاريخِ، حتى إنّ الناسَ حُوصِروا وأُرهِبوا داخله لعدةِ أيامٍ في السنين الأخيرة؛ لأنّ ذلك من التعدي على الحرم، المخالف لأمر الله بتأمين مَن التجأَ إليه، فهو من نوع ما حذّر الله منه في قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)([4]).

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قرأها نافعٌ وابنُ عامر بفتح الخاءِ، على أنه فعلٌ ماضٍ، عطفًا على جعلْنا، خطابٌ لمَن قبلنَا، أو لنَا معهم أيضًا، على أنّ الجملة خبريةٌ لفظًا طلبيةٌ معنًى، وقراءةُ الجمهور بكسرِ الخاء، أمرٌ على إضمارِ القول، أي: وقلنا اتخِذوا مقامَ إبراهيم مصلًّى، فتكونُ خطابًا لنا، و(مِنْ) بيانيةٌ.

والمَقامُ بالفتحِ موضعُ القيامِ، والمراد به الحَجَر الذي به أثرُ قَدميهِ عليه السلام، وكان إذا وطِئه يلينُ ويصير كالطينِ؛ معجزةً له، أو موضعُ الحجرِ الذي به الأثرُ، توسعًا، وذلك حين كان يرفع بناء البيتِ (مُصَلًّى) مكانًا للصلاة، وصحَّ عن عمر رضي الله عنه أنه قال: “وافقتُ ربي في ثلاث؛ فقلت: يا رسول الله؛ لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فأُنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)”([5]).

 (وَعَهِدْنَا) العهد أمرٌ بمعنى الوصية، ولذا عُدّي بـ(إلى) (أَنْ طَهِّرَا) (أَنْ) يصحُّ أن تكون مصدرية، وحَذفُ حرف الجرِّ معها قياسي، أي: بتطهير البيت، ويصحُّ أن تكونَ تفسيريةً، وسوَّغ ذلك وجودُ معنَى القولِ في (عهدْنا)، فيصير قوله: (أنْ طَهِّرَا) تفسيرًا لعَهِدْنا.

وتطهيرُ البيتِ تنظيفُه مِن الأوساخ والقاذوراتِ الحسية؛ كالنجاسات، ومِن الأدران المعنوية؛ كالأصنام والفحش، والخصام، وبذيءِ الكلام، ودخول غيرِ المسلم إليه، وعمّا يخلّ بالمروءةِ؛ كالطوافِ بالبيتِ عُرْيًا، كما كان عليه أهل الجاهلية، وذكرتِ الآيةُ أصناف المتعبدينَ بالمسجدِ الحرامِ (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)؛ فمنهم الطائفُ بالبيت، ومنهم المعتكفُ، ومنهم القائمُ يصلّي راكعًا وساجدًا، ولم يعطف السجود على الركوع في قوله: (الركَّعِ السّجودِ) – كما في باقي أوصافِ المتعبِّدينَ الأخرَى – لتلازُمِ الركوع والسجودِ، فلو عُطفتا لأوهَمَ أنهما مفترقان.

 (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) وُصف البلد نفسه بأنه آمنٌ، على وزن فاعل؛ للمبالغة، والمرادُ ذو أمنٍ، فتكونُ صيغةُ فاعل للنسبةِ؛ كما في قوله تعالى: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ)([6]) ذاتِ رضا، أو اجعل آمنًا أهله؛ كقولهم: ليلٌ نائمٌ، أي: نائمٌ أهلُه، من المجاز العقلي، على حدّ: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)([7])، لعلاقة المكانية.

 (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (أهل) اسمُ جنس مضافٌ يَعمّ، و(مَن آمَن) بدلُ بعضٍ مِن كلٍّ مِن قوله: (أهله)، و(مِن) بيانية، والثمَرات جمع ثمَرَة، وهي ما تحملُه الشجرةُ ويؤكل رطبًا، فإذا يبسَ صارَ تمرًا، بالمثناة.

(قَالَ وَمَنْ كَفَرَ) القائل هو الله سبحانه، وهو على إضمار فعلِ قُل، أي: قال الله له: قُل: وارزق مَن كفرَ أيضًا، ويكون من عطفِ التلقين، المتقدم في قوله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَتِي)، فإنّ إبراهيم عليه السلام عندما ذكرَ له ربُّه: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) كأنّه استشعر أن الرزق كذلك لا يناله الظالمونَ، فذكر الله له أن الرزقَ مِن متاعِ الدنيا، لا يمتنع طلبُه للكافر، فهو يصيبُ البرّ والفاجرَ، كما قال تعالى: (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ)([8])، وهذا على جعل (مَنْ كَفَرَ) مِن عطف التلقين، الذي تقدم في  قوله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَتِي)، ويجوز أن يكون قول الله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ كَفَرَ) عطفًا على مقالة إبراهيم عليه السلام: (مَنْ آمَنَ) بلفظِ الخبر، أي: أرزقُ مَن آمَن ومَن كفرَ.

(فَأُمَتِّعُهُ) خبر الموصول (مَنْ كَفَرَ)، واقترن الخبر بالفاء لشبه الموصول بالشرط، وقوله: (قَلِيلًا) وصفٌ لمصدر محذوفٍ، قَيد للمتاع في قوله: (فَأُمَتّعُهُ)، أي: أمتعه متاعًا قليلًا، فإنْ قيل: الفاء الواقعة في الجوابِ للسببية، ومعناه أنَّ الموصولَ سببٌ في الجوابِ، والكفر لا يصلحُ سببًا للمتاع، يقال: الكفر ليس سببًا في المتاعِ، وإنّما سببٌ في قِلّته، الذي دلَ عليه (قَليلًا)، أو هو سبب في لحوقِ العذابِ بالكافر، المفهومِ من قوله: (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ).

و(أَضْطَرُّهُ) ألجئُه، مِن اضطَّرَه أوقَعهُ في الضّرورة، وأصلُها أضترّ أفْتَعل، قلبت التاء طاءً، قلبًا صرفيًّا للخفة، والمعنى أنّه سريعًا ما ينقضِي هذا الرزق والمتاعُ، مِن متاعِ الدنيا القليلِ، وفي القيامةِ يجدُ الكافر نفسه مضطرًّا إلى عذابِ النارِ، ليس له منه افتكاكٌ ولا مَناصٌ، كما قال سبحانه وتعالى: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)([9])، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو للحال، وبئسَ مِن أفعال الذمِّ، والمخصوص بالذمّ محذوف، تقديرُه: هي، أي: وبئسَ المصير للكافرين النار.

[1]) العنكبوت: 67.

[2]) البقرة: 228.

[3]) البقرة: 233.

[4]) الحج: 25.

[5]) البخاري: 393.

[6]) الحاقة: 21، والقارعة:7.

[7]) يوسف: 82.

[8]) الإسراء: 20.

[9]) الطور: 13.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق