المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (72)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (72)
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[البقرة: 127 – 130].
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ) حكاية بصيغة المضارعِ الدالِّ على الحاضرِ، لِمَا وقعَ في الماضي مِن البناء والرفعِ للبيت؛ لأنّ (إذْ) ظرفٌ يليهِ دائمًا الماضي، قال تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ)([1]) وإذا وقعَ بعدها المضارعُ فإنّها تخلّصُ معناه للمضيّ، ويكون التعبير بالمضارعِ بعدَها لاستحضارِ الماضي في الذّهنِ، حتى كأنهُ مشاهَد؛ ليكونَ وقعُه أبلغ، ويَرفعُ من الرفعِ، وهو هنا لِما يوضعُ فوق القواعد من البناء، فإنه هو الذي يرفع، وليس الرفع لذات القواعد، أو يكون الرفع للقواعد مِن رِفع المكانة وإظهار الشرفِ، بتعظيمِه ودعوة الناس إليه، لا مِن الرّفعِ الحسّي (الْقَوَاعِدَ) جمع قاعدة، الهاء فيه للمبالغة، مثل علَّامة ونسَّابة، والقواعدُ: أساسٌ يلي الأرضَ لشيءٍ يوضعُ فوقه، أصله من القعودِ، بمعنى الثباتِ واللصوقِ بالأرضِ، وجاء التعبير بالرفع دون الإطالة؛ لِما فيه من ذكر الرفعة والتشريفِ (مِنَ الْبَيْتِ) (مِن) ابتدائية، حالٌ من القواعد، وأُبهمت القواعدُ أولًا ثم بُينت بأنّها من البيتِ؛ لأن البيانَ بعد الإبهام أبلغُ من البيانِ ابتداءً، لتشوّق النفس إليه، وشرفتِ القواعد بنسبتها إلى البيتِ (وَإِسْمَاعِيلُ) عطفٌ على إبراهيمَ عليهما السلام، والفصل بين المعطوفِ والمعطوف عليه بمتعلقات الفعل – وهي المفعول والظرف – للدلالة على التفاوت بين رفعهما للبيت، فالرافع على الحقيقة إبراهيمُ عليه السلام، وإسماعيل عليه السلام مناولٌ ومعاون، وهو ما يشيرُ إليهِ الفصلُ بينَ المعطوفينِ، وهذا أولَى مِن جعلِ (وَإِسْمَاعِيلُ) مبتدأ، وجملة (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) خبرًا، على معنى أنّ مِن إبراهيم البناء، ومن إسماعيل الدعاء؛ لأن الدعاء عند البيت كان مِن إبراهيم عليه السلام، وأما إسماعيل عليه السلام فكانَ حديثَ السنّ.
وإسماعيل عليه الصلاة والسلام هو ابن إبراهيم من هاجر، جاريته القبطية، جاءهُ على كبَر، وكان حينها ابنه الوحيد، أمره الله سبحانه وتعالى في المنامِ بذبحه، ورؤيا الأنبياءِ مِن الوحي، فلما أسلمَه للذبح، فداهُ ربُّه بذبْحٍ عظيم، وكانت سُنة التقربِ بالأضاحي من بعدهِ، وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) كالتعليل لـ(تَقَبَّلْ مِنَّا) وتعريف جزئي الجملة، وكذلك الإتيان بضمير الفصل، كلّ منهما يفيدُ قصرَ الصفتين على الله تعالى، فكأنّ سمعَ ما سواه لا يعدُّ سمعًا.
(ربَّنَا) هذا نداءٌ مقصود منه الدعاء، تقدم مثله منها، وهو هنا بالثباتِ على الإسلام والهداية، وتكرير (رَبَّنَا) لإظهار الضراعة والتذلل لله سبحانه وتعالى (مُسْلِمَينِ) مِن أسلمَ وجهَه إذا أخلَص، أو مِن أسلَم بمعنى استسلمَ وانقادَ، والمراد الثباتُ على الإسلام، ودوامُ الانقياد لله سبحانه وتعالى، والزيادة على ما هما عليه؛ لأن الله قد جعلهما مسلمَينِ قبل ذلك، كما دل عليه قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)([2]) (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا) مِنْ يصح أن تكون للتبعيضِ، على معنى: واجعلْ مِن بعضِ ذريّتنا أمةً منقادةً مخلصةً لك؛ دَعا بذلكَ لأنه نبيّ، يعلمُ أنّ في ذريته ظَلمةً، فسألَ الله تعالى الممكن عادة، وهذا مِن أدبِ الدعاء، وخصّ الذرية بالدعاءِ دون سائرِ الناس؛ لأنه إذا صلحتِ الذريةُ تكونُ سببًا في صلاحِ غيرها، ولأنهم – بعد النفسِ – أولى الناس بالمعروف.
ويصحُّ أن تكون (مِنْ) بيانية، قُدمت على المبيّن، والتقدير: ومِن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذرية مسلمة لك؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)([3])، أي: ومثلهنّ مِن الأرض.
(أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)([4]) الأُمّة الجماعةُ العظيمة، التي يجمعها جامعٌ مِن دينٍ أو نسبٍ، كأمّة الإسلامِ وأمة العرب، فإبراهيم عليه السلام مع قومه أمّةٌ، وقد استجابَ الله له في ذريته، وأسلمتْ معظم قبائل العربِ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) (أرِنا) مِن رأى، بمعنى عرف وأبصرَ (مناسكَنا) جَمعُ مَنْسَكٍ، اسمُ مكانٍ، أي: عرِّفْنا أماكن التعبُّد، وخصَّ لفظُ المناسكِ بالحجّ لِما فيه مِن الكلفةِ، والبعدِ عن العادة، وفعلُه نَسَكَ كنصَرَ، بمعنى تعبّد غاية التعبد، أَو مِن نَسُكَ – كشرُف – نَسَاكَةً، بِمعنَى ذَبَحَ تَقرُّبًا، ولذا تسمى الذبيحة نَسِيكة، والمذابحُ مناسكَ (وتُبْ عَليْنَا) التوبة تكونُ من ذنبٍ، والأنبياءُ معصومون، فهو إمّا مِن بابِ هضمِ النفسِ، أو المراد بهِ التوبةُ على الذرية والعقِب (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تعليلٌ للدعاءِ بطلب التوبة، فإنّك أهلٌ لذلكَ.
(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) طلبَا في دعائهما أن يرسلَ الله في الأمةِ رسولًا منهم، فاستجاب الله تعالى دعوتهما ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يبعث من ذريتِهما رسولًا غيرَه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أنا دعوة أبي إبراهيم – أي: أثر دعوته – وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نورٌ، أضاءت له قصور بُصرى مِن أرضِ الشام)([5])، وقال (فِيهِم) دون (لهم) لِما في (لهم) من الاختصاص، بالإرسال إليهم دون غيرهم، وأراد أن تكونَ رسالته عامةً للعالمين (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) الآيات جمع آيةٍ، تُطلق على الآيةِ من القرآن، وهي المراد هنا، بقرينة (يتلو عليهم)، وتُطلق على المعجزة المحسوسة الخارقة للعادة، وكلاهما حجةٌ؛ لدلالتهما على صدق النبي صلى الله عليه وسلم (يتلو) يقرأ عليهم القرآن، ويذكرهم به، وجيء بالمضارع (يَتْلُو) للدلالة على تكرر تلاوتِه في كلِّ وقتٍ (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) ويعلمهم الوحيَ الذي أنزل إليهم من الكتابِ، ويعلمهم (الْحِكْمَةَ) السنةَ والفقه في الدين، ودقائق الشريعة المبينة للكتاب (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرُهم مِن الشركِ والنقائصِ، ويرفع قدرهم بالإسلام (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا يُغلب (الْحَكِيمُ) المحكِم لكل أمرٍ يريدُه.
[1]) المدثر: 33.
[2]) البقرة: 131.
[3]) الطلاق: 12.
[4]) الأُمّة مِن الأَمِّ بمعنى القصد؛ لأنّ أفرادها ومكوناتها تتجمع، ويقصد بعضها إلى بعض، ووزنها فُعْلَة كقُدرَة، بمعنَى المفعول؛ لأنها مأمومةٌ ومقصودةٌ.
[5]) مستدرك الحاكم: 2/600.